الوقت-أتقنت السعودية فن الإبتزاز الذي تكلّل بالأمس في إنتزاع إجماع عربي على «إدانة» إيران حيث لم تجرؤ العديد من الدول «الرمادية» على إمساك العصا من الوسط والخروج على «الإجماع العربي»، الذي إخترقه لبنان في إطار سياسة «الناي بالنفس».
بيان القاهرة ذو النكهة الخليجية، أعاد إلى الأذهان ترنيمة عربية غابت عنا منذ زمن بعيد عنوانها «الإجماع العربي»، لتعود معه إلى أذهان البعض خاطرات ذلك الإجماع الخليجي، قبل أكثر من 30 سنة، والذي تكلّل بفرض صدام حسين حرباً دموية على الجمهورية الإسلامية الإيرانية دامت أكثر من 8 سنوات وأودت بحياة مئات الألاف من الأبرياء.
بالفعل، نجح وزير الخارجية السعودي «عادل الجبير» في الحصول على هذا الإجماع الذي غاب عندما أينعت الطائرات الإسرائيلية في الفتك بأبناء الشعب الفلسطيني، إلا أن «البيان الختامي» لم يقتصر على «إدانة الاعتداءات الإيرانية على مقار البعثات الدبلوماسية السعودية»، بل تطرّق إلى «التدخلات الإيرانية في شؤون الدول العربية وخاصة سوريا ولبنان والعراق واليمن»، وربط «حزب الله» بالإرهاب، فهل نجحت الرياض بالأمس في الحصول على «إجماع» دأبت إليه منذ أكثر من 5 سنوات؟
لم يخرج بيان الجامعة العربية بشيء جديد فيما يخص «الإعتداء على السفارة السعودية في طهران»، التي أدانت بدورها هذا التصرّف من عناصر «غير منضبطة»، وأظهرت رصانة سياسية مرفوقة برسائل حسن نوايا تكلّلت بإعتقال أكثر من 60 شخص وإقالة المعاون الأمني لمحافظ طهران بسبب تقصيره في اتخاذ التدابير اللازمة للحيلولة دون وقوع الحادث، إلا أنها لم تلقى أذان صاغية. في الواقع، ما تطلبه الرياض يتعدّى حادثة السفارة ليصل إلى مقاطعة عربية تامّة لطهران بالتزامن مع إتخاذ إجراءات تستهدف «حزب الله»، ما يؤكد أن «الهدف الغائي» من شمّاعة السفارة هو بسط النفوذ السعودي أمام محور المقاومة في المنطقة، بدءاً من اليمن، مروراً بسوريا والعراق وصولاً إلى لبنان.
هذا فيما يخص السعودية، ولكن ماذا عن الموقف العربي في ظل غياب شبه تهام لكل من مصر والجزائر؟ أين العراق الذي كان لفترة طويلة «عمود الخيمة» العربية؟وهل من المسموح لدول مثل البحرين والإمارات أن تتحكّم بالقرار العربي؟أسئلة عدّة خطرت في بال المشاهد العربي بالأمس.
قد لا نحتاج للكثير من الفطنة بغية الإجابة هل هذه الأسئلة، فما تطلبه الرياض اليوم يتعدّى «رد الإعتبار»، ليصل إلى تصفية الحسابات مع طهران في كافّة ساحات الإشتباك بين البلدين، وبالتالي قد تكون الإجابة الشافية على كافّة هذه الإسئلة عبر طرح السؤال التالي: هل بإستطاعة هذه الدول المضي إلى حيث تريد الرياض؟ وهل تطيق دول «الإجماع العربي» ما تطلبه السعودي؟
عند مطالعة المشهد الإقليمي في الوقت الراهن يظهر «إجماع عربي» من نوع آخر على غرق كافّة الدول، غير الخليجية، في مستنقعاتها الداخلية، وبالتالي حتى لو قدّمت الدول العربية بالأمس هديّة «الإجماع»، فلن تتعدى سقف التصريحات وتجربة العدوان على اليمن من ناحية، والتحالف الإسلامي من ناحية آخرى خير دليل على ذلك.
وأما بالنسبة للعراق الذي شاطر الدول العربية قرار الإدانة، فقد إرتكب أخطاء عدّة أوّلها عدم إيصال صوت الشارع الذي طالب بطرد السفير السعودي ردّا على جريمة الشيخ النمر، وليس آخرها التحفّظ، وليس الإعتراض، على البند الذي يربط حزب الله بالإرهاب. ألا يعني ذلك، إتهام «الحشد الشعبي» بالإرهاب؟ وهل يطيق وزير الخارجية «إبراهبم الجعفري» هذا الأمر؟ إذاً، العراق ورغم عدم معارضته لـ«الإجماع العربي»، إلا أن موقف التململ والتحفّظات المُرتجعة لن يتعدّى قاعة الإجتماع في القاهرة.
فيما يخصّ الدول الخليجية، تعد البحرين من الدول «التابعة»، وقرارها الأخير لم يزد في موقف الرياض خردلةً، وأما بالنسبة لـ«السرب الثلاثي»؛ الكويت وقطروالإمارات، فالأولى لا تطيق أكثر مما إتخذته في إستدعاء السفير وتسليم مذكّرة إحتجاج، وقطر كذلك الأمر خاصّة أن طموحات الأمير «تميم بن حمد» تتعدى طموحات نظيره السعودي «محمد بن سلمان». الإمارات أيضاً، لن تبتعد كثيراً عن السرب الثلاثي، ومصالحها الإقتصادية مع طهران تتعدى حادثة السفارة حيث يبلغ حجم التبادل التجاري أكثر من 17مليار دولار سنوياً، أي حوالي 80% من التبادلات التجارية بين إيران والدول الخليجية. وفي حال قرّرت هذه الدول الإنخراط التام في الموقف السعودي، ستتحمّل أعباء قد لا تطيقها في المرحلة اللاحقة، إلا أن «العصا السعودية» قد تفعل فعلتها هذه المرّة.
سلطنة عمان، رغم أنها لم تخرج عن «الإجماع العربي»، إلا أنها أظهرت، كعادتها، رصانتها السياسية حيث دعا وزير الخارجية يوسف بن علوي الى تحكيم العقل، الأمر الذي يؤكد إقتصار الموقف العماني على بيان الإدانة لا أكثر، وتجربة اليمن خير دليل على حيادية السلطنة.
إن مشهد الأمس، هو إعادة «بطيئة» لمؤتمر محمد بن سلمان حول «التحالف العسكري الإسلامي»، الذي أثبت بعد ساعات من إنتهائه أنه «قنبلة صوتية» فارغة لا تسمن ولا تغني من جوع. لا تأخذكم الحميّة كثيراً فخلافات السنين لا تجمعها مصالح الأيام ذلك أن «بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتّى».