الوقت - كشفت تقارير مستجدّة عن واقعة الهجوم الصاروخي الإيراني ـ الذي نُفذ صباح الرابع عشر من يوليو المنصرم ـ استهدافًا دقيقًا لمنطقةٍ استراتيجية تُجاور ما لا يقلُّ عن عشرين مبنًى من منشآت العصب الأمني والاستخباري للكيان الصهيوني.
ذلك الهجوم، الذي اندرج في إطار عملية “الوعد الصادق 3”، نُشرت له مقاطع مصوّرة تُظهر انكشاف وضعف الدرع الصاروخي الصهيوني في قلب تل أبيب، إذ لم تلبث البطاريات الإسرائيلية أن خرّت على الأرض دكّاً بعد عجزها عن مجاراة دقّة الضربة وسرعة المقذوفات، وقد فاضت المنصات الإعلامية بهذا المشهد، وتجاوز عدد مشاهديه على قناة CNN في يوتيوب وحدها الملايين، لتنتشر الصور ومقاطع الفيديو كانتشار النار في هشيم الدعاية التي طالما تغنّت بـ"منظومة لا تُقهر".
وحسب ما أظهرته التحليلات، فإن المنظومة الدفاعية المدمّرة كانت ترابط بعين اليقين قرب وزارة الدفاع الصهيونية وهيئة أركان الجيش، في منطقة تُضاهي في رمزيتها واستراتيجيتها مقر البنتاغون الأمريكي، حتى سرت عليها التسمية ذاتها في الإعلام العبري والمحللين الغربيين: “البنتاغون الإسرائيلي”.
وإثر الضربة وما تبعها من ضجّة لم يعد يُجدي معها الصمت والتّستّر، اضطرت شبكة “إسرائيل 24”، تحت فوهة القلق الشعبي والاستفهام الإعلامي، إلى نقل تحقيقٍ ميدانيّ كشفت فيه بأن الضربة قد طالت أبراجاً فاخرةً في قلب تلك المنطقة، أبرزها ناطحات “دا فنشي” الحديثة.
وسيأتي في ما تلا من هذا التقرير بيانٌ لأهمية هذه الأبراج، وشرحٌ لما جعل تلك الرقعة تُوصَف بـ"البنتاغون الإسرائيلي"، ذاك الحيّ المغلق على أسراره، المفتوح لكلّ احتمالات الدمار.
كريا: عقدة الأمن ومركز السلطة المغلّف بالمجهول
قبل بضعة أسابيع، باغتت مجموعة القرصنة السيبرانية المعروفة بـاسم “عصا موسى” أجهزة الكيان الصهيوني، فاخترقت كاميرات المراقبة والمنظومات الرقمية الحسّاسة، لتفضح مركزاً أمنياً عتيقاً، مقاماً في صميم مدينة تل أبيب، يعود تأسيسه إلى عام النكبة 1948 ـ وقد أُطلق عليه لاحقًا اسم رئيس الحكومة ورئيس الأركان الأسبق “إسحاق رابين”.
وقد نشرت “عصا موسى” خارطةً شاملةً لمجمّع “كريا” (أو كريات)، تُظهره بصورٍ تخطيطية ذات دقّة عالية، مدفوعة ببيانات ثلاثية الأبعاد بلغ حجمها أكثر من 22 جيغابايت، اعتمدتها شركات تعاقدية تابعة للکيان الصهيوني لرفع تقارير معلّبة إلى كبار المسؤولين.
ومن خلال هذه الوثائق، تتضح ملامح تلك المنطقة التي تُعدّ مركز ثقلٍ أمنيّ فريد من نوعه، حيث تتشابك في رقعته الضيّقة المؤسسات العسكرية والأمنية الكبرى للكيان، في تنسيقٍ محكمٍ كعقدٍ لا ينفرط، مما منح “كريا” هالةً من التحصين والقداسة العسكرية لم يجرؤ الإعلام في الكيان على فضحها إلا بعد نكبة الضربة الأخيرة.
تلك الأبنية التي ارتفعت كأنها أعمدة طغيان، أُحصيت وحداتها في الخرائط المسرّبة بدقة رقمية، وحُدّدت مواقعها وتخصصاتها، فانكشفت أسرار من كانوا بالأمس يتبجّحون بـ"حصنهم الرقميّ"، فباتت جدرانهم عاريةً أمام العدسات، وشبكاتهم مخروقةً كالعنكبوت واهن البناء.
معالم “البنتاغون الإسرائيلي”: خريطة المراكز والمنشآت العسكرية والأمنية في قلب تل أبيب
فيما يلي بيانٌ مفصل لأبرز المباني والمنشآت الاستراتيجية التابعة للمنظومة العسكرية والأمنية في مجمع “كرياه” وسط تل أبيب، والتي وقعت في مرمى الاستهداف الصاروخي الإيراني الدقيق:
1 - وزارة الحرب الصهيونية
هي القلعة التي تُدار منها دفّة القرار العسكري والأمني في كيان الاحتلال، تشكِّل مركز الثقل في صوغ الاستراتيجيات ووصل ما انقطع بين مؤسسات الجيش، والصناعات الدفاعية، والأجهزة الحكومية الأخرى، ومن رحمها تولد السياسات وتتضافر القوى.
2 - هيئة أركان جيش الاحتلال
الموقع الأعلى للقيادة العسكرية، والمرجعية العليا في تشكيل العقيدة القتالية وإدارة مسارح العمليات، تتكامل تحت سقفها الجيوش البرية والجوية والبحرية، ويتقرر فيها مصير الحروب ومآلاتها، بحسابٍ دقيق لمعادلات التوازن والردع.
3 - مبانٍ إدارية لوزارة الحرب:
تُؤدي دور العمود الفقري للتنفيذ والتخطيط الإداري والوجستي. من هنا تُدار شؤون الإمداد والتموين، والموارد البشرية، والتخطيط طويل المدى، والدعم التشغيلي الميداني، وهي التي تسدّ الخلل، وتملأ فراغات الميدان حيث يُستنزف الرجال والسلاح.
ويقع المبنى الرئيس لوزارة الحرب وهيئة الأركان العامة في الجانب الشرقي من مجمّع كرياه، مشيَّداً على مساحة تبلغ قرابة 3800 متر مربع، بارتفاع يُقارب 95 متراً، متكوناً من 16 طبقة، ويضمّ في جوفه مأوىً طارئًا وموقفاً داخلياً للسيارات، وحسب المعطيات المسربة، يحتل مكتب رئيس “أمان” (استخبارات الجيش) ومقر شعبة الاستخبارات العسكرية الجناح الأيمن من الطابق الثالث عشر، أما الطابق الرابع عشر من الجهة نفسها، فهو مقر رئيس هيئة الأركان ونائبه ومكاتب قيادة هيئة الأركان العامة، وفي الطابق السادس عشر من الجهة نفسها، جُعل مقر قيادة قوات البر.
في الجهة المقابلة، يستقر مكتب وزير الحرب في الطابق الرابع عشر يساراً، ويقع مركز تطوير الأسلحة الاستراتيجية في الطابق السادس عشر من الاتجاه ذاته، في مؤشر جليّ على ربط القرار السياسي بالتصنيع الحربي داخل البنية الهيكلية.
4 - مديرية الاستخبارات العسكرية (أمان)
تمثّل الذراع الدماغية لجيش الاحتلال، وهي المولِّد الأول للمعرفة الاستخباراتية والتحليلات العميقة للتهديدات، تدعم صانع القرار العسكري على المستويين التكتيكي والاستراتيجي، وتغذّي آلية التخطيط بجداول الرصد والتقييم المستمر.
5 - مقر الوحدات الاستخباراتية والسبرانية
من بينها الوحدة الشهيرة “8200”، تُعنى بجمع الإشارات وتحليل البيانات وشنّ العمليات الهجينة في الفضاء الرقمي، تشكّل العمود التقني في عالم الجاسوسية الحديثة، وتُسهم بدور حاسم خلف الستار في تحديد اتجاهات الصراع المعلوماتي.
6 - غرف القيادة والسيطرة العملياتية
تُسيِّر دفّة الحروب وتراقب مجرياتها خارج الحدود، وتصل عبر تكنولوجيا التنسيق بين المستويات القيادية المختلفة، هي عين الجيش الكاشفة ويده المدبرة، تطلق الأوامر، وتُعدّل المسارات، وتصوغ الرؤى في خضمّ المعارك.
7 - مباني الاتصالات والربط العسكري
تُؤمّن شبكةً سيادية عاليـة التحصين، تتكوّن منها منظومة الاتصال العسكري الداخلي، لضمان انسيابية التوجيهات وبقاء حلقة القيادة مغلقةً محصّنة من الاختراق.
8 - قواعد الدعم والتموين اللوجستي
هي خزائن السلاح ومستودعات الزاد العسكري؛ تُخزَّن فيها الطلقة قبل أن تُلَقّى في فوهة الميدان، تضمن استمرار الحياة في الجبهة، وتُراعي نبض الحرب وسرعة الاستجابة في سدّ حاجات القوات.
9 - مباني الأمن والحماية الداخلية للمجمّع
هنا تُدار مسألة الدخول والخروج، وتُضبط الحدود الداخلية للموقع الأكثر تحصيناً، من هذه الأبنية تُراقَب التفاصيل الصغيرة التي قد تتحوّل إلى اختراق كبير، فهي العين الساهرة على سلامة الداخل بين متاريس الدولة العسكرية.
10 - برج “مارغانيت” Marganit Tower
صرح شاهق يُعدّ من أبرز أبراج الاتصالات العسكرية ذات الطابع الاستراتيجي، يحمل على عاتقه جانباً من الشبكة المعقدة التي تربط قادة الحرب ببعضهم، وتربطهم جميعاً بخيوط القرارات الكبرى.
11 - منشآت التدريب والاجتماعات القيادية
مبانٍ قائمة على نقل الخبرة وتطوير المفاهيم، وبين جدرانها يُصاغ الجيل القادم من القيادات، تُستخدم للتأهيل العسكري والتمرين الذهني، حيث تلتقي الإرادة بالتنظير، ويولد التخطيط من رحم الاجتماع.
12 - مراكز التخطيط الاستراتيجي والبحث العسكري
تشمل مركز أبحاث الجيش، قيادة القوات البحرية، وغرف عمليات تُعنى بالتفكير المستقبلي وتطوير السيناريوهات، تُعدّ مصانع الفكر العسكري، ومنها تُنسج نظريات الردع والهجوم والتكتيك العابر للأزمنة.
13 - المنشآت الأرضية والمرافق العسكرية تحت الأرض
طرق ومدارج خفيّة للتنقل الآمن، وملاجئ لتخبئة العتاد وتيسير الحركة داخل الظلمة، بعضها مزدوج الوظيفة: يخدم الحاجة العسكرية من جهة، ويُسهم في حفظ السلامة من جهة أخرى.
14 - أبراج ومبانٍ متعددة الأغراض ذات طابع أمني
تجمع ما بين الوظائف الإدارية والتقنية، وتأخذ أدواراً مرنةً حسب الحاجة، في إشارة إلى طبيعة المجمّع الذي يُفكّك الوظائف الواضحة ويُذيب المهام في كيانات معقّدة.
15 - مراكز الإدارة المشتركة بين الجيش ووزارة الحرب
تشكل محور التنسيق المشترك بين السياسي والعسكري، وتضمن مواءمة القرار الروتيني بالديناميات العسكرية الطارئة.
16 - المسارات والمنافذ الخاضعة للإجراءات الأمنية المشددة
تشبه شرايين محصَّنة تتحرك فيها القوة والقرار، لا يدخلها إلا من نال التفويض بختم السرّية القصوى؛ ووراء كل بوّابة منها ممرٌّ إلى طبقة جديدة من العمق العسكري.
17 - مبانٍ تتبع للصناعات والتكنولوجيا الدفاعية
تحتضن مفاتيح السلاح المتطوّر، ومختبرات التفكير التقنيّ في المنظومات الحديثة، فهي الورشة الكبرى لأدوات الحرب، وجزء مكين من مشغل دولة الاحتلال القائم على العسكرة المطلقة.
18 - وحدات دعم المعلومات والعمليات
تهدف إلى تمكين القيادات عبر جمع المعطيات الميدانية وتزويدها بالتحليلات العاجلة، ليكون القرار آنياً لا يعوزه الدليل، ومدروساً لا تجرّه العاطفة.
19 - مراكز الربط بين الجيش وجهازي الموساد والشاباك
غرف التنسيق بين الأذرع الثلاثة التي تمثّل مثلث القوة الداخلية والخارجية، حيث تذوب الحدود بين الجاسوس والمعركة، وبين الضابط ورجل الاستخبارات.
20 - أبراج “دا فينشي” ومباني “كنيرِت” السكنية الفاخرة
هي واجهة براقة لمنطقة أمنية مُغلّفة، تُستخدم كمقار قيادة مشتركة، ولا سيما للإشراف على العمليات الجوية، رغم مظهرها المدني. وقد أُقيمت قرب المباني السيادية، فجمعت بين بذخ الواجهة وتوحّش الغرض.
21 - منشآت الدعم والخدمات الأمنية المحيطة بالمجمّع
وفي معرض الحديث عن هذه المرافق، يتبيّن أن الملاجئ في هذه المنطقة ليست محض أبنية مرئية أو مواقع مستقلة، بل هي منشآت أرضية عميقة، شُيّدت في تضاعيف الباطن، واتصلت بأجنحة المباني العسكرية العليا.
هذه الملاجئ، المتصلة بالمباني القيادية الكبرى كوزارة الحرب، وهيئة الأركان، وشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، وقاعات القيادة العليا، مرفقة عادةً بغرف محصّنة تُعرف بـ"البونكرات"، تحتمي في بطون الطوابق السفلى، صامدةً تجاه الضربات، وإن ترنّحت الأبراج من فوقها، وإنّ ما أُدرج في الخرائط تحت بند “مواقف السيارات والمرافق السفلية” ـ كالعنصر رقم 13 ـ ليس إلا وجهاً خادعاً لملاجئ مزدوجة الوظيفة.
كذلك يربض برج “مارغانيت” المخابراتي، وما يلوذ به من أبنية القيادة، فوق شبكة من الأنفاق والممرات الأرضية التي لم يُصرَّح بها في أي خرائط علنية، بل بقيت همساً بين الخرائط الاستخباراتية السرية، وعقداً منسوجاً بين طبقات الأرض.
إنّ مجمع “كرياه” ليس محض بناء عسكري في وسط تل أبيب فحسب، بل هو قلب المنظومة الأمنية الصهيونية النابض، يضمّ بين جدرانه هيكل وزارة الحرب، وهيئة الأركان، والمؤسسات الاستخبارية والمراكز القيادية العليا. ومن فرط تشابك تلك الأجهزة والمقرّات، وامتزاجها بالعمران المدني المجاور من أبراجٍ فاخرة ومجمّعات تجارية راقية، أمسى هذا المجمّع عصباً استراتيجياً من جهةٍ، وبؤرة هشاشة قاتلة من جهة أخرى.
وقد حمل رجال السلاح الجوّفضائي الإيراني عبء ضرب هذه الوكر المحصّن، فنفّذوا مهمّتهم ببراعة فأصابت الضربة قلب المكان وهزّت عرشه.
حينما أبصرت الصواريخ الإيرانية طريقها وسط العتمة
فبعدما استطاع الباحثون الإطلاع على السمات الدقيقة لاختبار الضربة، تتضح لنا الملامح الفنية الباهرة للصاروخ الإيراني ساعة خرقه الطبقات الدفاعية الجوية للكيان، واستهدافه عمق مركز الهيمنة الأمنية في تل أبيب، ومن صدف التوثيق النادر، أن أحد سكان المستوطنات المجاورة قد صادف تلك اللحظة، فوثّقها بعدسته، شاهداً على حدثٍ خلخل وهم التفوق الإسرائيلي، وزلزل أبراجاً طالما ظُنّت عصيّةً على العبور والنفاذ.
فالتحقيق الذي أُجري على الفيديو المصوّر لحظة الانفجار، يُظهر مرور الصاروخ الإيراني فوق برج “مارغانيت” الشاهق، ذاك البرج الذي يُعدّ منارة الاتصالات وعصب التنسيق القيادي لكل من وزارة الحرب والقاعدة المركزية لقوات الجيش. ومن خلال مضاهاة زوايا الانفجار، وتموضُع المباني المحيطة، تم التوصّل إلى أن نقطة الاصطدام وقعت داخل نطاق مجمع “كرياه” نفسه، في مكانٍ يحتضن: مركز أبحاث الجيش، المبنى المركزي للعمليات، ومقرّ قيادة القوة البحرية للکيان الصهيوني. ولئن أُخفيت كثير من الحقائق في البيانات الرسمية، فقد شهدت السماء، وسجّلت العدسات، وتحدث الواقع عن صدق الإصابة ودقّتها الباهرة.
الصور الجوية والتحليلات اللاحقة جاءت تعزيزاً لهذا التقييم، لتؤكد أن قلب المجمّع تلقّى الضربة، لا أطرافه، وأن ما ضُرِب فيه ليس فرعاً ثانوياً، بل مقراً رئيسياً من مقار القيادة.
وفي سياقٍ متصل، أفادت شبكة “إسرائيل 24” الصهيونية بما طال أبراج “داڤينشي” الفاخرة من أضرار جسيمة، مشيرةً إلى أن أهميتها لا تعود لفخامتها أو علّوها وحسب، بل لأنها جارة ملاصقة لمجمّع كرياه، تقبع عند خاصرته مباشرةً، وقد أظهر التسجيل المصوّر المنتشر برغم تضييق رقابة التصوير، انهيار جدارٍ فاصل في الزاوية البعيدة من المشهد، وخلف ذلك الجدار، بناء يُرجَّح ـ وفق ما نقلته “ذا کرايزون” ـ أن يكون مدخل أحد الملاجئ العسكرية وموقع مبنى استخبارات الجيش، المسمّى بـ"أمان".
ومن خلال المقارنة بين هذا المقطع المصوَّر، ولقطات نُشرت إبّان الحرب، والتي وثّقت لحظة الانفجار قرب مجمع كرياه، على الأرجح من إحدى شرفات أبراج داڤينشي، يتّضح أن الهدف كان مبنًى يقع بمحاذاة برج “غانيت” ذاته، ويفصل بين نقطة الإصابة ومقرّ قيادة قوة الجوّ الصهيونية نحو بضع عشرات من الأمتار، في مساحةٍ تضجّ بالمفاصل القيادية والدفاع الجويّ، والتي كما يبدو، كانت غاياتٍ محقّقة لهذه الضربة الدقيقة.
الأبعاد الخفيّة للضربة الصاروخية الإيرانية في خاصرة قيادة الکيان
الصور القليلة التي رشحت من بين الرقابة العبرية، فضحت ما حُجب، وكشفت خفايا الضربة الصاروخية الإيرانية التي نالت من خاصرة القيادة العسكرية الصهيونية في تل أبيب، لتؤكّد أنّ اللهيب تخطّى جسد المؤسسة العسكرية وتعدّاه إلى الأبراج المجاورة لتطال شظاياه أبنية سكنية شاهقة، كانت تتفيأ ظلّ التحصين فاستحالت إلى خرائب منسية، وجدران مشروخة.
وقد أقرّت شبكة “إسرائيل 24” في نشرة صاخبة، بخسائر جسيمة لحقت بأبراج “داڤينشي”، موضحةً أن خطورتها لا تكمن في طابعها السكني، بل في موقعها الدقيق، إذ تُطلّ على مجمع “كِرياه” المُحتشد بالمقرات القيادية، وعلى وجه الخصوص مركز قيادة الأركان العامة، بما يمنحها نقطة إشراف بصري ومكاني بالغ الخطورة. وما التصوير الذي التُقط للحظة الانفجار، إلا من إحدى شرفات هذه الأبراج المطلة على قلب المؤسسة العسكرية للکيان، شاهداً من أعيان الإسمنت على زلزالٍ ضرب عمق القداسة الأمنية المزعومة.
في أحد المقاطع المصورة، التي خرجت من تحت أنقاض الرقابة والإخراج، وبعد أن جرى قصّها وتشذيبها لتُناسب حدود الإنكار، تُرى في الزاوية الطرفية مشاهد لتحطّم جدارٍ عازل. ومن خلفه، يتوارى بناءٌ يُعتمد كممر إلى أحد الملاجئ ومركزٍ للمعلومات الاستخبارية، ما يُعرف بشعبة “أمان” الصهيونية، حسب ما أفاد به موقع “ذا غرايزون”.
إن موضع الانفجار، وكما تُظهر القراءة الدقيقة للمشهد، يشير إلى أنّ موجة الانفجار لم تتوقف عند حدّ التأثير الظاهري، بل نفذت إلى لُبّ الطبقات الوقائية المحيطة بالبنية الاستخبارية، فأصابتها في مقتل، حيث كانت تُظنّ منيعةً.
وقد أظهرت المطابقة بين الفيديو المسرّب، ولقطات التُقطت من الأبراج إبان الحرب، أن موضع الضربة الرئيسي كان في جوار برج “غانيت”، وعلى مقربة شديدة من مواقع حيوية ترتبط بقيادة القوات الجوية ومنظومة الدفاع الجوي التابعة للجيش الصهيوني، ممّا يعكس مقدار الدقّة والاستهداف الانتقائي لتلك الضربة، ويُعزّز فرضية إصابة الأجهزة السيادية وشلّ قدرتها على الاحتواء الفوري.
ولم تلبث صحيفة “معاريف” أن أقرّت بذلك، فأعلنت أنّ برج داڤينشي، وقد أصيب بضرر هيكلي بالغ، أضحى خارج نطاق الترميم، ولا بد من تسويته بالأرض ثم إعادة بنائه من جديد.
وبأخذ مسافة القياس بين نقطة الاصطدام والمواقع الحساسة المحيطة به، كبرج داڤينشي، وبرج مارغانيت، ومركز الاستخبارات ومربض الملجأ السفلي، ومقرات القيادة الجوية، يتضح أن مسرح الانفجار قد ألحق ضرراً مباشراً بنسيج الهيكل القيادي للجيش الإسرائيلي، بل تجاوز ذلك ليخلق منطقةً من التداخل الجغرافي بين أكثر التكوينات الدفاعية حساسيةً.
وهذا ما عزّز التكهنات حول انهيار منظومات التواصل والقيادة الرقمية والدفاع الجوي، لاسيّما في محيط يشكّل القلب التكنولوجي للقيادة، المتصل على مدار الساعة بمراكز التوجيه الاستراتيجي، حيث يُتّخذ القرار، ويُنفّذ الأمر.
ورغم محاولة الإعلام الإسرائيلي طمس الحقائق، ومجاراة بعض عمالقة البيانات التقنية مثل “غوغل” في عدم تحديث صور الأقمار الاصطناعية المرتبطة بالحرب الأخيرة ذات الأيام الاثني عشر، فإنّ الحقيقة لا تبقی خفيةً إلى الأبد، وإن نامت الأعين الغربية عن المشهد، فالساحة ما زالت تئنّ بأصداء الانفجار.
وقد كشفت صحيفة “ذا غرايزون” أن خريطة الأبنية ومستوى التداخل بين المقرات العسكرية تمّ الحصول عليها من خلال رسائل بريد إلكتروني سُرّبت بعد عمليات قرصنة استهدفت قادةً عسكريين ودبلوماسيين صهاينة، وتبيّن من تلك البيانات أن جزءاً من هذه المنشآت الاستراتيجية يُدار بشكلٍ مشترك بين تل أبيب وواشنطن، في نوع من التبني الأمريكي المباشر لغرف عملياتٍ كانت تدّعي السيادة المُطلقة.
أما صحيفة “تلغراف” البريطانية، فقد نقلت استناداً إلى صور الرادار الفضائي، أن الضربات الصاروخية الإيرانية ألحقت دماراً مباشراً بثلاثة مواقع شديدة الأهمية، شملت قاعدة جوية، ومركزاً استخبارياً، وموقعاً لوجستياً تابعاً للجيش الإسرائيلي.
خاتمة القول
مجموعة الشواهد الميدانية والتقارير الإعلامية العبرية، إلى جانب ردود الفعل الدبلوماسية الصادرة عن تل أبيب، تُفسّر بوضوح السرّ وراء سعي قادة الكيان الصهيوني، منذ الأيام الأولى للاشتباك، إلى فتح قنوات الوساطة ومسارات التهدئة لوقف الحرب والتسريع بإرساء هدنة.
فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي تتعرض فيها مراكز القيادة الحساسة، والمنشآت الاستخبارية، ومرافق الدعم العسكري في كيان الاحتلال، والتي طالما وُصفت بأنها عصيّة منيعة ومحمية بطبقات شديدة التحصين، لضربات مباشرة كشفت هشاشتها.
وإن هذا الندم المبكّر لم ينبع من شعور أخلاقي أو ضغط سياسي، بل من إدراك صادم لمستوى النفوذ الإيراني، ودقة الإصابة، وتأثير تلك الضربات على أرض المعركة، فلم يكن لدى دبلوماسيي الكيان ما يواجهون به هذا الواقع سوى عبارة واحدة تشرّبت بالارتباك: “نحن الآن بصدد تأديب المعتدي!”
