الوقت- بعد شهرين من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، تتلاشى آمال أهالي هذا القطاع المنكوب في عودة السلام والخروج من هذه المحنة يومًا بعد يوم.
في الساعات الأولى التي أعقبت إعلان وقف إطلاق النار، عكست مشاهد العودة الجماعية للاجئين إلى مناطقهم السكنية مظاهر رائعة لصبر الأهالي ومقاومتهم لضغوط المحتلين لتهجيرهم قسرًا، لكن الآن، وبعد أسابيع قليلة من انتهاء الحرب، يُظهر رصد تحركات الصهاينة في ظل تراجع الضغط الدولي المطالب بالتنفيذ الكامل لاتفاق وقف إطلاق النار، أن هذا الكيان لم يتخلَّ عن خطة تهجير سكان غزة، بل يواصل تنفيذ هذا المشروع الإجرامي.
إن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، التي فشلت في إقناع مصر دبلوماسياً بتوطين سكان غزة في شبه جزيرة سيناء، تمضي سراً في تنفيذ خطة لإعادة توطينهم.
التهجير تحت غطاء المنظمات غير الحكومية
لقد تبنى الكيان الصهيوني مبادرات جديدة لتحقيق هدفه القديم المتمثل في تهجير الفلسطينيين، ويحاول تمهيد الطريق لهذا الهدف باستخدام مؤسسات تبدو وكأنها منظمات حقوقية، وفي هذا السياق، يكشف تقرير استقصائي نشرته قناة الجزيرة، استناداً إلى مصادر ميدانية وبيانات وتقارير إعلامية، عن وجود شبكة معقدة ومنظمة تقف وراء نقل مئات الفلسطينيين من غزة إلى ثلاث دول في أفريقيا وآسيا.
حسب التقرير، تلعب مؤسسات مثل جمعية "مجد" وما يُسمى "مكتب الهجرة الطوعية" الإسرائيلي دورًا محوريًا في هذه العملية، ووفقًا للمعلومات المنشورة، فإن الجهة الرئيسية المنفذة لهذه العملية هي "جمعية مجد أوروبا"، التي تُقدم أنشطتها تحت ستار المساعدات الإنسانية ودعم ضحايا الحروب، وتدّعي الجمعية في تعريفها الرسمي أن هدفها هو دعم المجتمعات المسلمة وضحايا النزاعات.
إلا أن المراجعات الفنية وتحليلات البيانات لموقع المنظمة الإلكتروني وحساباتها الرقمية تكشف عن مؤشرات مقلقة، بدءًا من هوية رقمية مُصممة بعناية، مرورًا بانعدام التسجيل القانوني الشفاف، وعدم وجود عنوان فعلي محدد، وصولًا إلى استخدام أرقام واتساب لجمع معلومات حساسة، تُثير هذه الحالات شكوكًا جدية حول الطبيعة الحقيقية لهذه المجموعة، وتُعزز فرضية أننا نتعامل مع غطاء رقمي مُضلل، وليس مؤسسة خيرية حقيقية.
كما يُظهر تحقيق صحيفة هآرتس أن إسرائيليًا من أصل إستوني يُدعى "تامر ليند" يقف وراء جمعية مجد، أنشأ شركاتٍ غالباً ما تكون بلا موظفين مسجلين، وتقدم خدماتٍ غير محددة، ولا يتطابق نشاطها المالي مع رأس المال المُعلن، وهي أمورٌ تُثير مزيداً من الشكوك حول الأهداف الحقيقية لهذه الشبكة.
منع دخول المساعدات الإنسانية
يُعدّ منع دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة أحد أهمّ جوانب سياسات الكيان الإسرائيلي لممارسة ضغطٍ شامل على سكان هذا القطاع.
لا تُمثّل هذه السياسة أداةً للعقاب الجماعي للفلسطينيين فحسب، بل تُنفّذ أيضاً في إطار استراتيجيةٍ أوسع تهدف إلى إجبار سكان غزة على مغادرة أراضيهم.
حسب بنود وقف إطلاق النار، كان من المفترض أن تدخل 600 شاحنة محملة بالغذاء والدواء والوقود إلى غزة يومياً لتلبية بعض الاحتياجات الأساسية للسكان على الأقل، إلا أن تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان تُشير إلى أن تل أبيب قد منعت فعلياً تنفيذ هذا الالتزام من خلال وضع عراقيل مختلفة، بحيث لا يدخل غزة في الواقع سوى نحو 100 شاحنة يومياً.
لا تكفي هذه الكمية من المساعدات بأي حالٍ من الأحوال لتلبية احتياجات أكثر من مليوني فلسطيني، أعلنت الأمم المتحدة أن نحو مليون ونصف المليون شخص في غزة يعيشون في أسوأ الظروف الإنسانية ويواجهون سوء تغذية حاد، وقد حوّل نقص الغذاء ومياه الشرب والدواء والوقود الحياة اليومية إلى أزمة دائمة، وأوصل النظام الصحي إلى حافة الانهيار.
كما انتقد المقرر الخاص للأمم المتحدة بشدة الكيان الصهيوني، مؤكداً أنه لا يوجد عملياً أي وقف لإطلاق النار في غزة، وأن تل أبيب تمنع دخول المساعدات الحيوية مع استمرارها في القصف.
في ظل هذه الظروف، يُعدّ الحرمان الممنهج للسكان من الاحتياجات الأساسية أداةً لكسر المقاومة الاجتماعية وإجبار الفلسطينيين على النزوح، ومن خلال جعل غزة غير صالحة للسكن، يحاول الكيان الاحتلال دفع الفلسطينيين إلى الاعتقاد بأن السبيل الوحيد للخروج هو مغادرة وطنهم، وهي سياسة تُعدّ مثالاً صارخاً على انتهاكات حقوق الإنسان ومحاولة لتغيير التركيبة السكانية من خلال الضغط والتجويع.
هجمات يومية متواصلة
على الرغم من أن وقف الهجمات على غزة كان أهم بنود اتفاق وقف إطلاق النار، إلا أن الهجمات اليومية التي يشنها الصهاينة على مناطق متفرقة من غزة، وخاصة جنوب القطاع، استمرت خلال الشهرين الماضيين، ما أسفر عن مقتل أكثر من 400 شخص.
وتُعد هذه الهجمات، التي تُنفذ بدعم أمريكي مباشر، جزءًا من حملة واسعة النطاق يشنها الكيان الصهيوني لزعزعة استقرار غزة وممارسة ضغوط نفسية على سكانها الفلسطينيين، إذ إن استمرار دوي القصف والضغط اليومي قد يدفع بعض سكان غزة، على المدى البعيد، إلى الموافقة على مغادرة البلاد قسرًا أملاً في النجاة من هذا الوضع المأساوي.
نظراً لعدم استقرار وضع وقف إطلاق النار وعدم وضوح الأفق لدخول المرحلة الثانية من الاتفاق، يسعى الصهاينة إلى تنفيذ خططهم تدريجياً عبر هجمات محدودة ولكنها متواصلة، وقد أعلن قادة حماس مؤخراً أن حكومة نتنياهو غير مستعدة لبدء المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار، وهو ما أكده الوسطاء أيضاً.
وصف وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، الذي صرّح بأن بلاده تعمل مع الدول الصديقة الأخرى للدخول الفوري في المرحلة الثانية، هذا الهدف بأنه صعب المنال.
ورغم استمرار جهود الوسطاء، يحاول وزراء تل أبيب المتطرفون إبقاء نار الحرب مشتعلة في غزة، وقد أعلن إيال زمير، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، مؤخراً أن الجيش يستعد لعملية عسكرية واسعة النطاق ضد غزة.
ويُعدّ استمرار الحرب أمراً بالغ الأهمية لمنع انهيار حكومة نتنياهو، ويحاول الكيان إشعال جولة جديدة من الحرب تحت ذرائع مختلفة، من بينها عدم رغبة حماس في نزع سلاحها.
من جهة أخرى، ورغم اتفاق وقف إطلاق النار الذي نصّ على انسحاب القوات المحتلة تدريجياً من غزة، تشير الأدلة إلى أن الجيش الصهيوني لم يكتفِ بعدم الانسحاب، بل يواصل احتلال المزيد من المناطق يوماً بعد يوم.
وأعلن سكان غزة مؤخراً أن الجيش الصهيوني قد أزال الكتل الخرسانية التي كانت تحدد "الخط الأصفر" في غزة، ووسع رقعة المناطق التي يحتلها في بني سهيلة، شرق خان يونس، ويُظهر هذا الإجراء عمق الأزمة والتهديدات التي تُحدق بحياة سكان غزة، ويُعدّ انتهاكاً صارخاً لاتفاق وقف إطلاق النار.
وبهذه الإجراءات، تسعى "إسرائيل" إلى تشديد الحصار على الفلسطينيين، وإجبار سكان غزة، الذين يعيشون حالياً في المناطق الجنوبية وبالقرب من الحدود مع مصر، على مغادرة القطاع.
مشروع إدمان الفلسطينيين
إضافةً إلى جميع الأعمال الإجرامية السابقة، أضاف الجيش الصهيوني مؤخراً خياراً جديداً إلى أجندته، وهو تدمير الفلسطينيين في غزة وتهجيرهم، أفادت مصادر محلية لقناة عربي 21 يوم الأحد بأن جيش الاحتلال قد كثّف بشكل ملحوظ عمليات تهريب المخدرات إلى غزة خلال الأشهر الأخيرة.
وتُنفّذ هذه العملية عبر شبكة منظمة من العملاء والمتعاونين والميليشيات المسلحة داخل وخارج المناطق الخاضعة لسيطرة الاحتلال، وهدفها الرئيسي هو إضعاف معنويات المقاومة الفلسطينية.
وحسب التقرير، يتم تهريب المخدرات باستخدام أساليب تمويه مختلفة، أبرزها قوافل المساعدات التي تدخل غزة والشاحنات التجارية التي تعبر المعابر التي يسيطر عليها جيش الاحتلال، وأكدت مصادر أمنية أن المخدرات تُخبأ عمداً بين البضائع المدنية، ولا سيما المواد الغذائية والمعلبات والعبوات في صناديق معدنية أو كرتونية سميكة، ما يُصعّب تتبعها.
وتهدف "إسرائيل" من هذه الخطوة إلى إدمان الشباب الفلسطيني وإضعاف روح المقاومة والصمود لديهم، وبهذه الطريقة، ومن خلال إضعاف إرادة الشباب وقدراتهم الدفاعية، يُسهّل مسار الهجرة القسرية والفرار من غزة أمام السكان، من خلال خلق هذا الوضع النفسي والاجتماعي، يأمل جيش الاحتلال في المضي قدمًا بخططه لتغيير التركيبة السكانية والسيطرة على غزة على المدى البعيد دون مواجهة مباشرة وواسعة النطاق، تُعدّ هذه السياسة مثالًا آخر على الضغط الممنهج والحرب النفسية ضد الشعب الفلسطيني، والتي تُشكّل، إلى جانب الحصار والقصف وتقييد المساعدات الإنسانية، محاولةً واضحةً لنزع سلاح الشعب وإجباره على مغادرة وطنه.
عمومًا، ورغم كل جهود الكيان الصهيوني لتهجير سكان غزة قسرًا، فقد أظهر الفلسطينيون أنهم لن يستسلموا للضغوط، ومع ازدياد جرائم المحتلين، تتعزز إرادة الفلسطينيين وروح المقاومة لديهم، ما يُشكّل حاجزًا منيعًا في وجه سياسات الاحتلال التي تنتهجها تل أبيب.
