الوقت - بعد انقضاء خمسة أشهر على الرد الإيراني المزلزل الذي دك حصون الصهاينة، لا تزال مبانٍ كثيرة تشكو الضيم والخذلان، وقد تُرِكت في بعض الأحياء قاعاً صفصفاً، لا ترى فيها من آثار الإعمار شيئاً، وقد تواترت الأنباء من المصادر العبرية كاشفةً عن سخط عارم يعتمل في صدور الصهاينة، إذ أعرض ولاة أمرهم في تل أبيب عن ترميم ما أفسده البأس الإيراني، وتركوا الصهاينة في العراء يواجهون مصيرهم لوحدهم، وهذا واقع الحال في تل أبيب التي باتت تئن تحت وطأة النكال.
ولم تتوارَ صحيفة “يديعوت أحرونوت” عن الاعتراف بمرارة الواقع، إذ أشارت في تقرير لها إلى شللٍ أصاب مشاريع ترميم آلاف المنازل، فباتت آثار الهجوم شاخصة للعيان، وأضحت آلاف الأسر الإسرائيلية تفترش الانتظار وتلتحف الوعود الكاذبة، وعزت الصحيفة هذا العجز المقيم إلى تباطؤ دائرة الضرائب وشح القوی العاملة منذ اندلاع الحرب، حتى أن المقاولين، من فرط الضغط والأهوال، نفضوا أيديهم من مشاريع الإعمار.
انكشاف المستور وتهاوي الدروع البشرية
وفي حين يتباكى الصهاينة على أطلال مساكنهم ويزعمون تعذر إصلاحها، ينكشف القناع عن اتخاذهم المدنيين والدوائر السكنية دروعاً لترسانتهم العسكرية، فقد أماط موقع “غراي زون” اللثام، في تحقيق استقصائي، عن مخبأ عسكري سري يقبع تحت أحد أبراج تل أبيب الشاهقة، ويُرجح أن هذا الوكر كان هدفاً للصواريخ الإيرانية في عمليات الثالث عشر من يونيو المنصرم.
وقد حدد التحقيق منشأة “موقع 81” الغارقة في باطن الأرض، وهي غرفة عمليات للرصد والتحكم تجمع بين جيش الاحتلال وحليفه الأمريكي، رابضة تحت مجمع “دافنشي” السكني في قلب حي مكتظ وسط تل أبيب. وتشير الوثائق المسربة والرسائل المفضوحة إلى أن هذا المرکز محاط بسياج من الكتمان والحماية الكهرومغناطيسية، ويخضع لرقابة أمنية صارمة، وقد شُيد بدعم أمريكي على مساحة شاسعة تناهز الستة آلاف متر. وما إن سقطت الصواريخ، حتى ضرب الاحتلال طوقاً أمنياً مشدداً، ومنع عيون الكاميرات من رصد الفاجعة، وحال دون اقتراب الصحفيين من محيط وزارة الحرب ومجمع “عزرائيلي” القريب.
ويُعتقد، حسب التسريبات، أن هذا الجحر متصل بمركز القيادة القديم المعروف بـ"الحفرة"، والذي توسع وتمدد ليصبح ما تسمى “قلعة صهيون”، وتأتي هذه الفضائح لتدمغ الكيان الإرهابي بتهمة التترس بالبشر، واستخدام المدنيين متاريس عسكرية، في وقت يرمي فيه خصومه بدائه، متهماً إياهم باستخدام “الدروع البشرية”، منتهكاً بذلك كل الشرائع والمواثيق الأممية. وثمة تقارير أخرى تقطع الشك باليقين، مؤكدةً أن تلك الأماكن التي زعموا أنها مساكن آمنة، ما هي إلا أوكار لضباط سلاح الجو، تستروا بزي المدنية ليسلموا من العواقب.
حصاد الدمار في تل أبيب
أما عن لغة الأرقام التي لا تحابي، فقد أشارت التقارير الأولية إلى تضرر 480 مبنى في خمسة مواقع بتل أبيب، وفي “رمت غان” تهاوت أركان 237 مبنى، منها عشرة سويت بالأرض أو كادت، وفي “بت يام”، كان لصاروخ واحد من صواريخ الحرس الثوري الإيراني فعل الزلزال، إذ ألحق الضرر بثمانية وسبعين مبنى.
وقد ذكرت “هآرتس” أن طلبات التعويض انهمرت على دائرة الضرائب كالسيل الجارف، متجاوزةً ثلاثة وثلاثين ألف طلب لترميم الهياكل المتصدعة، ناهيك عن أكثر من أربعة آلاف ملف لتعويض الممتلكات المنزلية، ومثلها للمركبات التي طالها الدمار. ونقلاً عن “تايمز أوف إسرائيل”، فقد شردت الحرب أكثر من أحد عشر ألف مستوطن، ولا يزال أكثر من سبعة آلاف منهم يهيمون على وجوههم، عاجزين عن العودة إلى بيوتهم التي استحالت ركاماً.
الهروب بعد خيبة الأمل من تحسن الأوضاع
إن تعطل عجلة الإعمار قد أخرج الصهاينة عن طورهم، فارتفعت عقيرتهم بالشكوى، فهذا مستوطن من حيفا ينعي بيته المدمر ويشكو توقف الحال واستفحال النهب، مؤكداً أن نزيف الخسائر في تل أبيب نهر لا ينضب، وتشير تقارير “ميدل إيست آي” إلى تقديم ما يربو على خمسين ألف طلب تعويض، جلها يخص العقارات السكنية.
وقد أفضى هذا الواقع المزري إلى نزيف حاد في الموارد والبشر، إذ قدرت الخسائر المادية بنحو خمسة مليارات شيكل، ودبت في أوصال الكيان حمى الهجرة المعاكسة، فلاذوا بالفرار بعد أن تملكهم اليأس من تحسن الأحوال. ففي عام واحد، حزم نحو تسعمئة طبيب، وأكثر من تسعة عشر ألف أكاديمي، وثلاثة آلاف مهندس حقائب الرحيل، طالبين النجاة، ومعظمهم في ريعان الشباب. ويحذر التقرير من أن استمرار هذا الحال سيقود الكيان إلى هاوية اقتصادية سحيقة جراء فقدان رأس المال البشري.
ولم يسلم قطاع التكنولوجيا الفاخر من هذا الانهيار، إذ فرّ آلاف الخبراء من الأراضي المحتلة. وكما وصف المحلل “علاء اغبارية” للجزيرة، فإن موجة الهجرة المعاكسة هذه تعكس شرخاً عميقاً لا يرأب في جدار الثقة بين القطيع ورعاته، وقد طالت كافة الشرائح، مُحدثةً صدمةً سياسيةً زلزلت أركان الأمن المزعوم، وكشفت عن هشاشة البيت الداخلي، وباتت تنذر بمستقبل حالك السواد يلف مصير هذا الكيان المؤقت.
