الوقت – في الوقت الذي يرزح فيه الكيان الصهيوني تحت وطأة جبهات تتلظى بالنيران منذ عامين، وتشتد حاجته إلى رصّ البنيان ولم الشتات لدرء المخاطر المحدقة، تأبى رياح الشقاق إلا أن تعصف بأشرعته، فإذا بالشرخ بين أرباب السياسة وقادة الأمن يتسع حتى غدا هوةً سحيقةً، تنذر بالويل والثبور.
وقد تجسدت هذه الفتنة في أشنع صورها عبر السجال المحتدم بين يسرائيل كاتس، وزير الحرب، وإيال زامير، قائد أركان الجيش، حيث اشتبكا في معركة ليّ الأذرع حول شؤون العسكر، بيد أن دقيق النظر في خبايا الأمور، كما يرى المحللون، يكشف أن محرك هذه الدمى ومسعّر هذا الوطيس ليس سوى نتنياهو نفسه، الذي يذكي نار الخلاف ليتدفأ على لهبها، مستثمراً تصدع الجبهة العسكرية لترسيخ عرشه المتأرجح.
ورغم مساعي الوساطة التي قادها نتنياهو ظاهراً، ما زال الجمر تحت الرماد، والانقسام يتمدد كالأفعوان، مثيراً موجةً عارمةً من سخط الرأي العام، وقد بلغ توصيف هذا العبث مداه حين شبّه بعض المراقبين حكومة نتنياهو بـ “روضة أطفال” يطرب معلمها لصراخ الصغار ويستعذب عراكهم.
شرارة النزاع… حين تعبث الأهواء بقرارات الجيش
اندلعت نيران هذا الشقاق حين انبرى زامير لمعاقبة الجنرالات الذين وسمهم الفشل إبان هجوم حماس في الجنوب، وأمضى قائمة تعيينات جديدة دون مشورة كاتس أو تنسيق مسبق.
فما كان من كاتس إلا أن قابل التصعيد بتجميد القرارات، وشكّل لجان التحقيق لتمحيص الإجراءات، فبينما يرى زامير في العزل والتعيين شأناً مهنياً محضاً، يراه كاتس تمرداً يستوجب الكبح، ورداً على ذلك، أشهر كاتس سيف التجميد في وجه التعيينات العليا لثلاثين يوماً، في خطوة عدّها زامير طعنةً في خاصرة الجاهزية العسكرية وتدخلاً سياسياً سافراً.
وحين استدعاهم نتنياهو إلى مکتبه ليرأب الصدع، أبى كاتس الاجتماع المشترك، فاستجاب نتنياهو لطلبه بالانفراد، لا حباً في الوفاق وحقن الدماء، بل استثماراً للشقاق وخلطاً للأوراق، وقد تواترت الأنباء في الإعلام العبري عن نية نتنياهو الإطاحة بكاتس وتنصيب جدعون ساعر مكانه، مستغلاً هذه المعمعة ليضرب عصفورين بحجر واحد.
وفي المقابل، صبّ زامير جام غضبه على ساسة تل أبيب، متهماً إياهم بالتنصل من التحقيق في نكبة السابع من أكتوبر، في حين أن الجيش لم يتوان عن جلد ذاته والتحقيق في إخفاقه.
ويبدو أن هذه المكاشفة الصريحة قد أثارت حفيظة نتنياهو، الذي يضمر الشر لقادة الجيش ويسعى لكسر شوكتهم في الخفاء، وفي هذا السياق، أكدت صحيفة “هآرتس” أن حكومة نتنياهو تسعى جاهدةً لجعل الجيش كبش فداء وحيداً، واصفةً الأمر بأنه حلقة في مسلسل السيطرة السياسية على الجهاز الأمني، حيث لا يعدو كاتس كونه سوطاً بيد نتنياهو يجلد به ظهر المؤسسة العسكرية، ليبقى هو الآمر الناهي.
وهنا انبرى المحللون يوجّهون أصابع الاتهام لرأس الهرم، واصفين الحال بالفضيحة التي تنخر في عظم الأمن، وعزوا ذلك إلى قرارات وزير الحرب الهوجاء، الذي “يأمر وينهى، ويزبد ويرعد” بلا طائل، ويرى الخبراء، ومنهم إفرايم غانور، أنه لو انصرف رئيس الوزراء لهموم الكيان الحقيقية ومستقبله، لما آل الحال إلى هذا الدرك الأسفل من التردي.
محاولة نتنياهو… الظهور بمظهر القوي
وفي خضم هذا المعترك المحتدم بين صناع القرار، اتجهت الأنظار صوب نتنياهو وألاعيبه المزدوجة، إذ تشير الدلائل المستقاة من كواليس الأحداث إلى أن رئيس الوزراء ليس قلقاً من هذا التوتر فحسب، بل هو من يصطاد في مائه العكر، ويسهم في تأجيج سعيره.
لقد انتقد زامير لتجاهله الوزير، وانتقد كاتس لهجومه على الجيش، وفي هذه الازدواجية مكر ودهاء؛ إذ يرمي لإضعاف مكانة كاتس في حزبه، وكسر هيبة زامير في جيشه، ليبرز هو في المشهد كـ “المخلص الأوحد” والربان الوحيد القادر على حفظ توازن السفينة قبل الغرق، موصلاً رسالةً للمجتمع الصهيوني مفادها أن غيابه عن السلطة يعني الفوضى وضياع الأمن.
إنها، في حقيقة الأمر، مناورة سياسية استباقية للانتخابات البرلمانية القادمة، يهدف من خلالها إلى إدارة الأزمات لا حلها، ليرسخ أقدامه في وحل السياسة.
ومن زاوية أخرى، يستميت نتنياهو عبر هذه الزوابع للفرار من تبعات هزيمة السابع من أكتوبر، ملقياً باللوم كله على كاهل الجيش والاستخبارات، وقد دأب خلال العامين الماضيين على عزل القادة لعرقلة التحقيقات، وها هما كاتس وزامير يقفان اليوم على شفا الإقالة، ليحكم هو قبضته الحديدية على مفاصل الأمن والسياسة.
كل الطرق تؤدي إلى فشل غزة
وإن بدا النزاع سياسياً حول ملف أكتوبر، إلا أن جذوره ضاربة في عمق الفشل العسكري بغزة، وارتداد هذا الفشل زلزالاً يضرب أروقة الحكومة والمجتمع الصهيوني، الذي عجز عن استيعاب هول الصدمة في ظل نتائج الحرب الصفرية.
ففي المنظور الصهيوني، أخفق الجيش بآلته الجهنمية في تحقيق أهدافه المعلنة، وعلى رأسها استئصال شأفة حماس، بل إن الإعلام والاستخبارات باتوا يقرون بمرارة الواقع: حماس لم تفنَ، بل نهضت من تحت الركام كالعنقاء، رممت قوتها، وأحكمت قبضتها على غزة من جديد.
وأمام هذا المأزق التاريخي، يتشبث قادة الكيان بأي قشة للنجاة من مقصلة الاتهامات، مدركين أن الذاكرة الجمعية لن تغفر لمن أدخلهم في دوامة لا تنتهي من الرعب والتهديد الأمني.
خلاصة القول، إن مساعي نتنياهو لغسل يده من دماء الفشل قد باءت بالخسران المبين، ولم تفلح في ردم هوة انعدام الثقة بين الشعب وجيشه وحكومته، وما هذه الإجراءات إلا مسرحيات هزلية لحفظ ماء الوجه السياسي، بينما يعجز العجز كله عن تغيير حقائق الميدان المرة، ما يفضح عمق التخبط والعجز في إدارة الأزمة بتل أبيب.
