الوقت - مع تصاعد التوترات الدولية وانتشار الأزمات الإقليمية في السنوات الأخيرة، يواجه العالم مجموعة من التحديات المتشابكة أكثر من أي وقت مضى؛ تحديات لا تقتصر على المجال الأمني، بل تشمل أيضًا القضايا البيئية والاقتصادية والإنسانية والجيوسياسية، ويتطلب حلها نهجًا متعدد الأطراف ومنسقًا، وقد أبرز هذا التعقيد المتزايد في النظام الدولي الحاجة إلى التعاون الإقليمي والدولي بشكل غير مسبوق، ودفع الحكومات إلى استخدام الدبلوماسية النشطة والتشاركية.
في ظل هذه الظروف، أصبح السلام والاستقرار من الأولويات المحورية للحكومات؛ بحيث اكتسبت مناقشات التعاون الدبلوماسي والآليات المشتركة لإدارة الأزمات مكانةً خاصة في معظم الاجتماعات والمنتديات الإقليمية والعالمية.
وقد أدى هذا الواقع إلى ظهور العديد من المبادرات لعقد اجتماعات ومؤتمرات وآليات تشاورية بهدف دراسة الاتجاهات الناشئة ومواجهة التهديدات المشتركة.
وفي الوقت نفسه، تسعى دول غرب آسيا أيضًا إلى التغلب على التحديات القائمة وتمهيد الطريق لتشكيل ترتيبات إقليمية جديدة من خلال تعزيز التفاعلات وبناء الثقة والتعاون متعدد المستويات، ومن بين هذه المبادرات الجديدة "منتدى مسقط للوساطة".
ينعقد هذا المنتدى في مسقط، عاصمة عُمان، لمدة يومين، من الأحد إلى الثلاثاء (23-25 نوفمبر)، بمشاركة عربية ودولية واسعة، ويُعد هذا الحدث استمرارًا لمنتدى أوسلو للوساطة، الذي تنظمه وزارة الخارجية النرويجية ومركز الحوار الإنساني، ويُعد من أهم الفعاليات الدولية التي تجمع الوسطاء وصناع القرار والخبراء في حل النزاعات.
أهمية وأهداف منتدى مسقط
يتمتع منتدى مسقط للوساطة بمكانة خاصة، ويُعتبر من أهم اللقاءات العالمية للوسطاء ونشطاء السلام، وكما يوحي اسمه، فهو ملتقى للتفاوض تُعقد فيه وساطات صامتة، يوفر هذا التجمع مساحة مفتوحة للنقاش وتبادل الخبرات، وفرصة لاستكشاف أساليب وأدوات جديدة للوساطة، وتعزيز جهود حل النزاعات من خلال الدبلوماسية الهادئة، كما يجمع الحدث الجهات الفاعلة في مسارات السلام في غرب آسيا، ويوفر بيئةً لتكوين أفكار ومنهجيات حوارية مبتكرة، ليصبح بذلك منصةً عملية لدعم مبادرات الاستقرار وحلول حل النزاعات في المنطقة.
يأتي اختيار مسقط لاستضافة هذا الحدث الدولي استمرارًا لدور عُمان المشهود في تخفيف التوترات وبناء الجسور، وقد جعلت سياسة عُمان الخارجية، التي تتسم بالحياد والاستقلالية، منها منصةً موثوقةً للتشاور والوساطة، تحظى بقبول جميع الأطراف المعنية.
عُقد أول "منتدى مسقط للوساطة" عام ٢٠٢٣ بمشاركة ٤٠ شخصية بارزة من ٢٦ دولة، وهذا العام هو ثالثها. وناقش المنتدى سبل تحقيق السلام في قضايا حساسة كاليمن والسودان وسوريا وليبيا وغزة، وشملت المواضيع التي نوقشت الانتقال من وقف إطلاق النار إلى العمليات السياسية الشاملة، والبعد الرقمي للنزاعات، وتأثير تغير المناخ والتدهور البيئي على الاستقرار الإقليمي.
وفي الوقت نفسه، صرّح وزير الخارجية النرويجي أندرياس كرافيك قائلاً: "إن التعاون مع عُمان في مجال السلام والمصالحة أمرٌ مهمٌّ لنا، لقد لعبت عُمان دوراً محايداً وسلمياً في الشرق الأوسط لسنوات عديدة، بما في ذلك دورٌ محوريٌّ في دعم الحوار بين الأطراف المتنازعة في اليمن، وفي العملية التي أدت إلى استئناف العلاقات الدبلوماسية بين إيران والمملكة العربية السعودية".
يحضر اجتماع مسقط ممثلون من ليبيا والأردن وسوريا وإيران والبحرين ولبنان وقطر واليمن ومصر، بالإضافة إلى الأمين العام لوزارة الخارجية النرويجية، والمبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى اليمن، والرئيس التنفيذي لمركز الحوار الإنساني، التقى ممثلو الدول وأجروا محادثات منفصلة مع وزير الخارجية العماني.
يُعد هذا الحدث الأخير في مسقط حدثًا غير مسبوق ومهما، ويُظهر أن عُمان أصبحت الآن طرفًا رئيسيًا في الحوار الإقليمي والمشاورات الدبلوماسية، لم يكشف اجتماع مسقط، الذي عُقد خلف أبواب مغلقة، عن أي تفاصيل، ولكن نظرًا لتاريخ مسقط الطويل في التوسط في القضايا الإقليمية والدولية الحساسة، فقد وجّه المحللون أنظارهم مجددًا إلى إمكانية ظهور مبادرة جديدة في هذا المجال، وهي مبادرة لفتت بوادرها انتباه المراقبين.
ونظرًا لنجاح بعض دول المنطقة في مجالات البيئة وتغير المناخ ومواجهة مختلف التحديات، فإنها تسعى إلى تبادل خبراتها وإنجازاتها من خلال اجتماعات مثل اجتماع مسقط، تتيح هذه التجمعات فرصةً لاستكشاف حلول مشتركة لحل المشكلات الجماعية وتعزيز التعاون الإقليمي، بما يُمكّن من حل المشكلات الناجمة عن التحديات الشاملة من خلال التفكير المشترك والدبلوماسية.
اجتماع في خضم حرب غزة
ينعقد هذا الاجتماع الإقليمي في ظل تصاعد التوترات في المنطقة بشكل ملحوظ بعد حرب غزة، ما يجعل التعاون والتنسيق بين الدول المشاركة أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى للتغلب على التحديات وإرساء الاستقرار والأمن في المنطقة.
ونظرًا لحجم التحريض الحربي الذي يمارسه الكيان الصهيوني في المنطقة خلال العامين الماضيين، تسعى إيران والدول العربية الآن إلى منع امتداد انعدام الأمن إلى الخليج الفارسي من خلال تطوير التعاون في مختلف المجالات.
أثبتت التجارب السابقة أن الأمن الإقليمي لا يمكن ضمانه بالاعتماد على القوى الأجنبية، وخاصة الولايات المتحدة، وكما فشل الوجود المكثف للقوات الأمريكية والقواعد العديدة في الدول العربية في منع التهديدات المباشرة ضدها، فإن هجوم الكيان الصهيوني على قطر، والذي لم تتخذ واشنطن أي إجراء لصده، مثال واضح على ذلك، ما يدل على أنه كلما كانت تل أبيب طرفًا في المعادلة، كانت سماء الدول العربية مفتوحة للصواريخ والطائرات المقاتلة الصهيونية.
على عكس المفهوم التقليدي للجيل السابق من الحكام العرب، لم يعد من الممكن تفسير وتقييم الوجود العسكري الأمريكي في الخليج في إطار صفقة النفط مقابل الأمن، وقد غيّرت سياسات واشنطن الداعمة للكيان الصهيوني جميع المعادلات، بما في ذلك حل الدولتين الذي تدعمه الدول العربية في فلسطين لإرساء أمن إقليمي مستدام.
في ظل هذه الظروف، يسعى العرب وإيران إلى إيجاد حلول مشتركة لمواجهة تهديدات العدو الصهيوني وعدم الاستقرار الإقليمي من خلال الاستفادة من آليات واجتماعات إقليمية مثل مسقط، تُعدّ هذه الاجتماعات فرصة لتعزيز التقارب وتبادل الخبرات واتخاذ إجراءات فعّالة لضمان الأمن والاستقرار الإقليميين دون الاعتماد على القوى الأجنبية، وإظهار قدرة دول المنطقة على ضمان أمنها من خلال التعاون والتنسيق المتبادل.
مسقط: ساحة دبلوماسية لطهران
يشارك الوفد الإيراني، برئاسة وزير الخارجية السيد عباس عراقجي، في اجتماع مسقط، ويسعى إلى استغلال هذه الفرصة الإقليمية لتوسيع التعاون في مختلف المجالات، لذلك، عقد عراقجي سلسلة من الاجتماعات الثنائية مع المسؤولين العمانيين وممثلين آخرين مشاركين في الاجتماع، وناقش عراقجي جهود إيران لتخفيف التوتر في المنطقة مع وزير الخارجية العماني بدر البوسعيدي.
وتناول الاجتماع تطور العلاقات الثنائية بين البلدين، وتبادل الجانبان وجهات النظر حول التطورات الإقليمية والدولية، ولا سيما جهود تخفيف التوتر في المنطقة ودعم المساعي الدبلوماسية لمعالجة الأزمات، وأكد الجانبان على أهمية التنسيق والتشاور المستمر بين البلدين من أجل ترسيخ الأمن والاستقرار ودعم مبادرات التنمية والسلام في المنطقة.
تشهد العلاقات الإيرانية العمانية حاليًا أفضل حالاتها، وقد وصل التنسيق بين البلدين في القضايا الإقليمية والدولية إلى مستوى غير مسبوق، ويتجلى هذا التقارب، بالإضافة إلى العلاقات الثنائية، بوضوح في التصريحات الرسمية للمسؤولين العمانيين، وكانت عُمان قد دعت في وقت سابق الدول الأعضاء الأخرى في مجلس التعاون الخليجي إلى إعادة النظر في مواقفها تجاه إيران حتى يتمكنوا من الوقوف معًا في وجه التهديدات المشتركة للكيان الصهيوني.
من جهة أخرى، التقى ديفيد هارلاند، المدير التنفيذي لمركز الحوار الإنساني، برفقة ثلاثة من كبار مسؤولي المنظمة، مع عراقجي على هامش قمة مسقط، وبحثا معه التطورات والاتجاهات الدولية، ولا سيما التحديات والتهديدات التي تواجه السلم والأمن الدوليين في ظل الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة.
وأشار عراقجي إلى الأوضاع المتوترة في العالم، بما في ذلك منطقة غرب آسيا، نتيجة الأحادية الأمريكية واستمرار عدوان الكيان الصهيوني وجرائمه ضد شعوب المنطقة، مؤكدًا أن مواجهة هذا التوجه تتطلب مسؤولية وتحركًا فعالًا من جميع الحكومات والمجتمع الدولي لحماية مكتسبات الحضارة الإنسانية وصون السلام وسيادة القانون.
كما أعرب ديفيد هارلاند عن رأيه في أهمية تعزيز الدبلوماسية باعتبارها الأداة الفعالة الوحيدة لبناء السلام وحل النزاعات، كما التقى عراقجي هانز جروندبرج، الممثل الخاص للأمم المتحدة في اليمن، وبحث معه.
يُتيح حضور الوفد الإيراني في قمة مسقط، في ظلّ منعطفٍ حرجٍ تشهده المنطقة، فرصةً هامةً لتعزيز الدبلوماسية الوقائية وتوسيع الحوار الأمني مع الدول العربية، كما يُضاعف هذا الحضور من إمكانية التآزر الإقليمي في مواجهة التهديدات المشتركة، ومنع امتداد الأزمات الراهنة إلى الخليج الفارسي.
يكتسب حضور إيران أهميةً من هذا المنظور، إذ يُذكّر ممثلي المنطقة الآخرين بأنه في ظلّ الأجواء المتوترة الحالية، لن تقتصر تهديدات النظام الصهيوني على إيران أو قطر؛ بل إن عدم تشكيل مبادرة مشتركة لمواجهة هذا الخطر، سيُعرّض دولٌ أخرى في المنطقة، عاجلاً أم آجلاً، للاعتداءات والسياسات التوسعية نفسها.
