الوقت- يتربع قرار الولايات المتحدة بمقاطعة قمة العشرين في جنوب أفريقيا - وتغيُّب دونالد ترامب عنها - على عرش أكثر المناورات الدبلوماسية إثارةً للجدل في الآونة الأخيرة.
تذرعت واشنطن في ظاهر الأمر بادعاء أن حكومة جنوب أفريقيا تمارس “إبادة جماعية” ضد البيض؛ وهي أكذوبة ما فتئ ترامب يرددها في خطاباته المتعاقبة خلال الأشهر المنصرمة.
للوهلة الأولى، تتراءى هذه الرواية كموقف أخلاقي نبيل دفاعاً عن حقوق الإنسان؛ بيد أن النظرة الثاقبة تكشف أن القضية، أبعد ما تكون عن الهم الإنساني، متجذرةً في دهاليز السياسة الداخلية الأمريكية، والصراع الجيوسياسي المحموم، والتوظيف المحكم للسرديات الهوياتية.
إن تضافر هذه الأبعاد الثلاثة يقدّم صورةً جليةً لهذه المواجهة ويميط اللثام عن كيفية استحالة المعركة حول مفاهيم حقوق الإنسان، إلى أداة طيعة في لعبة موازين القوى الدولية.
1- ادعاء الإبادة الجماعية: ما حقيقة المشهد؟
يرتكز التبرير الأمريكي لمقاطعة القمة على زعم واهٍ بوقوع “إبادة جماعية” ضد البيض في جنوب أفريقيا؛ غير أن هذا الاتهام يتنافى كلياً مع التعريف القانوني والدولي للإبادة الجماعية، فوفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة، تقع هذه الجريمة حين تعمد دولة أو جماعة إلى تدمير جماعة إثنية أو عرقية أو قومية أو دينية كلياً أو جزئياً، ولم تسجل أي هيئة قانونية معتبرة أو مؤسسة دولية مرموقة مثل هذا القصد أو السلوك في جنوب أفريقيا.
تمثّل جنوب أفريقيا اليوم صرحاً ديمقراطياً دستورياً يتمتع فيه جميع المواطنين - بيضاً كانوا أم سوداً أم من أصول مختلطة - بحقوق متكافئة ومشاركة فاعلة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعي، لا يزال البيض يضطلعون بدور محوري في عجلة الاقتصاد، ويتبوؤون مناصب حكومية مرموقة، ولا تسري بحقهم أي قوانين تمييزية - كما كان الحال إبان حقبة الفصل العنصري البغيضة، وعليه، فإن ادعاء وقوع إبادة جماعية يفتقر إلى أدنى أساس قانوني.
يكمن جذر هذه الضجة السياسية في مشروع قانون بأروقة البرلمان الجنوب أفريقي يرمي إلى إعادة توزيع عادلة للأراضي الزراعية؛ تلك الأراضي التي آلت بطريقة جائرة للبيض خلال حقبة الفصل العنصري المظلمة.
لقد تأسس نظام الفصل العنصري الذي أُقر عام 1948 على ركائز سياسية أرستها الأنظمة الاستعمارية السالفة، ومن أبرز دعائم أجندة الفصل القومي، قانون أراضي السكان الأصليين لعام 1913 الذي حصر ملكية السود للأراضي في 7٪ فقط من مساحة البلاد (ارتفعت إلى 13٪ عام 1936).
أفرز هذا القانون “محميات” للسود لا يُسمح لهم بتأجير أو امتلاك أراضٍ خارج نطاقها، ما أفضى إلى عمليات تهجير قسري واسعة النطاق واقتلاع للملاك السود من جذورهم، أرسى هذا القانون دعائم الفصل الإقليمي والتمييز الاقتصادي الذي استمرت تداعياته حتى بعد تقويض نظام الفصل العنصري.
كشف إحصاء لملكية الأراضي عام 2017 أن البيض في جنوب أفريقيا يستأثرون بنحو 72٪ من الأراضي الزراعية والرعوية، بينما لا يملك السود مجتمعين سوى 4٪ منها، وللتوضيح، أظهر تعداد 2022 أن البيض لا يشكلون سوى 7.3٪ من نسيج المجتمع، في حين يمثّل السود الغالبية العظمى بنسبة 81.4٪.
نتيجةً لهذا الإرث التاريخي الثقيل، يستأثر البيض اليوم - رغم أنهم لا يشكلون سوى 7٪ من السكان - بنحو 70٪ من الأراضي الزراعية الخصبة، يُنظر إلى هذا التفاوت الصارخ في أذهان كثير من المواطنين السود، كاستمرار لإرث الفصل العنصري الاقتصادي الجائر.
لذا فإن إصلاح نظام الأراضي ليس إجراءً عنصرياً ضد البيض، بل محاولة لتصويب مسار التاريخ وتصحيح ظلم متجذر، لا توجد أي شواهد على عنف منظم أو تطهير عرقي أو تصفية جسدية للبيض، إن استخدام ترامب لمصطلح “الإبادة الجماعية”، ما هو إلا مناورة سياسية ماكرة لإذكاء مشاعر قاعدته العنصرية، وتشويه سمعة حكومة جنوب أفريقيا في المحافل الدولية.
2- الدور المحوري لجنوب أفريقيا في منظومة بريكس
مثّلت قمة جنوب أفريقيا نقطة تحول فارقة لمنظومة بريكس، رسخت مكانة هذا البلد كـ"بوابة القارة السمراء"، شهدت استضافة جوهانسبرغ عام 2023 اتخاذ أجرأ قرار في تاريخ المنظومة، ألا وهو توسيع دائرة العضوية ودعوة ست قوى اقتصادية وجيوسياسية وازنة للانضمام.
حوّلت هذه الخطوة الجريئة استراتيجية بريكس من اجتماع حواري، إلى اتحاد سياسي-اقتصادي ذي ثقل عالمي، كما وفّرت القمة منصةً لتسريع مشروع إزاحة الدولار؛ وهو مخطط طموح يهدف إلى تقويض احتكار الدولار وبالتالي كبح جماح النفوذ الأمريكي في النظام الدولي، وقد عزّز نجاح جنوب أفريقيا في دفع هاتين الغايتين الاستراتيجيتين، موقع البلاد والقارة الأفريقية بأكملها كقطب قوة صاعد في المشهد العالمي.
لذا، فإن تحول جنوب أفريقيا إلى محفز لتوسيع رقعة بريكس والتقدم في مسار إزاحة الدولار، شكّل تهديداً مباشراً للهيمنة الأمريكية المتجذرة، وبالتالي، كانت مقاطعة هذه القمة في حقيقة الأمر إجراءً عقابياً، ومحاولةً لتطويق دولة تجرأت على التحول إلى نواة مركزية لبديل عالمي ناشئ، يعكس هذا التصرف إدراك الغرب العميق لحقيقة أن قلب التحديات التي تواجهه لم يعد ينبض فقط في أروقة موسكو أو دهاليز بكين، بل في جوهانسبرغ وعبر أرجاء القارة الأفريقية أيضاً.
3- دور اللوبي الصهيوني وقضية لاهاي
خلف ستار الشعارات الحقوقية البراقة، تتوارى جذور المواجهة الأمريكية مع جنوب أفريقيا في اعتبارات جيوسياسية جلية، فمنذ اندلاع شرارة حرب غزة، تحولت جنوب أفريقيا إلى طليعة مناهضي الكيان الصهيوني في الساحة القانونية الدولية، وكان أبرز مبادراتها الجسورة رفع دعوى ضد قادة هذا الكيان أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي بتهمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.
أحدثت هذه الشكوى القانونية زلزالاً في أرجاء المعمورة، وبعد مداولات قانونية مستفيضة، أصدرت محكمة لاهاي للمرة الأولى في تاريخها أمراً باعتقال عدة مسؤولين صهاينة، وقد مثّل هذا القرار التاريخي هزيمةً سياسيةً ومعنويةً مدويةً لتل أبيب وداعميها المخلصين في واشنطن.
انبرى رد الولايات المتحدة على هذا الإجراء الجريء سريعاً وعدوانياً؛ إذ طرد البيت الأبيض سفير جنوب أفريقيا أولاً، ثم شرع في تقليص المساعدات المالية بصورة حادة لهذا البلد ومحاولة نسج خيوط العزلة حول جنوب أفريقيا في المؤسسات الدولية.
وأخيراً، إطلاق الادعاء السخيف بـ"الإبادة الجماعية ضد البيض"، کما وقّع ترامب أمراً تنفيذياً بإيقاف دفع المساعدات الأمريكية لجنوب أفريقيا ومنح ملاذ اللجوء للمزارعين البيض الجنوب أفريقيين، متذرعاً بأن قانون نزع الملكية الجديد يفسح المجال للتمييز العنصري.
برز دور اللوبي الصهيوني بصورة جلية في نسج خيوط هذه المؤامرة، مارست الجماعات المتحالفة مع "إسرائيل" في أمريكا ضغوطاً هائلة على دوائر صنع القرار لإنزال العقاب بجنوب أفريقيا، والحيلولة دون تكرار مثل هذه المبادرات الجريئة من قبل دول أخرى، وفي حقيقة الأمر، كان الهجوم السياسي الأمريكي على جنوب أفريقيا، انتقاماً صريحاً لإخضاع هذا البلد لضغوط قاسية بسبب جرأته في مجابهة الكيان الصهيوني.
وهكذا، لم ينبثق ادعاء الإبادة الجماعية من بواعث إنسانية نبيلة، بل من أتون المعادلات السياسية والهواجس الاستراتيجية لواشنطن وتل أبيب.
4- الجذور الاجتماعية والأيديولوجية لترامب: سياسة الهوية البيضاء وحشد الناخبين
يتصل البُعد الثالث للقضية بدهاليز السياسة الداخلية الأمريكية وقاعدة ناخبي ترامب العريضة، تشكّل جماعات اليمين المتطرف ودعاة تفوق العرق الأبيض والمحافظون الهوياتيون، ركيزةً أساسيةً من ركائز مؤيدي ترامب، ترى هذه الجماعات العالم من منظار “التهديد المحدق بالبيض”، وتعتبر أي تحول يفضي إلى انحسار نفوذ البيض كارثةً وجوديةً.
وقد تعالت نبرة ترامب مراراً بخطابٍ ينهل من هذا المعين، وتتناغم سياساته المناهضة للهجرة بشراسة، وهجومه الضاري على المجتمعات الملونة، وإبرازه لشبح “تلاشي الهوية البيضاء الأمريكية”، وترويجه لسرديات مثل “المخاطر المحدقة بالبيض في جنوب أفريقيا”، تناغماً تاماً مع هواجس ومخاوف قاعدته الانتخابية.
إن الدفاع الاستعراضي عن البيض في بلد ذي غالبية سوداء كاسحة مثل جنوب أفريقيا، ليس مجرد موقف دولي لترامب؛ بل أداة محكمة لتعزيز الدعم المحلي وتأجيج مشاعر مناصريه، فهو يحوّل قضية إصلاحات الأراضي المعقدة، عبر اختزالها، إلى قصة عاطفية مؤثرة عن “استهداف البيض وتضحيتهم”، وبذلك يغذي المخاوف العرقية المتجذرة لدى ناخبيه.
وهكذا تتراءی مقاطعة قمة مجموعة العشرين، إضافةً إلى رسالتها الجيوسياسية العميقة، أداةً دعائيةً فعالةً في معركة الانتخابات الداخلية المحتدمة.
صراع السرديات، لا الحقائق
تتجلى مقاطعة قمة مجموعة العشرين في جنوب أفريقيا كثمرة لطبقات متعددة من الدوافع السياسية والمصالح الجيوستراتيجية المتشابكة؛ طبقات لا تمت بصلة حقيقية للرواية الرسمية الأمريكية المزعومة حول “الذود عن حقوق البيض”.
يفتقر اتهام الإبادة الجماعية إلى أي ركيزة قانونية أو واقع ميداني ملموس؛ وتنبع العداوة الأمريكية في جوهرها من رد فعل انتقامي على دور جنوب أفريقيا المحوري في قضية إبادة الكيان الصهيوني أمام محكمة لاهاي؛ ويتجذر موقف ترامب في استراتيجية سياسة الهوية البيضاء والتعبئة الانتخابية المحمومة.
