الوقت- في التقاليد الدبلوماسية الأمريكية، يجري عادةً تعيين السفراء والمبعوثين الخاصين من صفوف الدبلوماسيين المحترفين، وخبراء العلاقات الدولية، والشخصيات ذات الخبرة العريقة في وزارة الخارجية، بيد أن دونالد ترامب، رئيس الولايات المتحدة، قد تحدى هذا العرف منذ بداية عهده الرئاسي.
وخلافاً للرؤساء السابقين الذين اعتادوا الاستعانة بدبلوماسيين مخضرمين من وزارة الخارجية والمؤسسات الأمنية لإدارة الملفات الخارجية، اختار ترامب مجموعةً من الشخصيات المغمورة، والمقربين سياسياً، وشخصيات من خارج المؤسسات الرسمية، وحتى نشطاء من حملته الانتخابية لتولي مناصب حساسة. إن تعيين أسماء مثل توم باراك لملف لبنان، وويتكاف للمفاوضات مع إيران، ومارك سافايا لشؤون العراق، وترشيح عامر غالب - العمدة المسلم غير المعروف من ميشيغان - لسفارة أمريكا في الكويت، وحتى اختيار ماوريسيو كلافر-كارون كمبعوث خاص لوزارة الخارجية لشؤون أمريكا اللاتينية، تمثّل نماذج جديدة لهذا النهج، وقد أثارت هذه التعيينات تساؤلات حول التفضيلات السياسية، والأهداف الخفية، وتداعيات هذه الاختيارات في مجال السياسة الخارجية الأمريكية.
وجوه من خارج المنظومة: من الحملة الانتخابية إلى السفارة
من أبرز سمات سياسة ترامب الخارجية تعيين شخصيات كانت نشطةً سابقاً في حملته الانتخابية أو من المؤيدين المتحمسين له، على سبيل المثال:
• عامر غالب، العمدة المسلم المغمور لإحدى مدن ميشيغان الصغيرة، تم ترشيحه سفيراً للولايات المتحدة في الكويت، وكان من مؤيدي ترامب في الانتخابات الرئاسية.
• مارك ساوايا، الذي يقال إنه من أصول عراقية، عُيّن ممثلاً خاصاً لشؤون العراق. وهو من المؤيدين المتحمسين لترامب، ولم يكتفِ بتقديم الدعم المالي لحملته الانتخابية الرئاسية في ميشيغان، بل بذل جهوداً واسعةً لاستقطاب أصوات المسلمين الأمريكيين.
• تم تعيين مورغان أورتيغاس ومن ثم توم باراك كممثلين خاصين لشؤون لبنان، رغم افتقارهما لخبرة دبلوماسية ملموسة.
• تولى ريتشارد غرينل وروبرت ويتكاف مسؤولية الملف الإيراني في فترات مختلفة، رغم أن بعضهم كانوا معروفين كشخصيات سياسية أو إعلامية أكثر من كونهم دبلوماسيين محترفين.
الولاء السياسي؛ العمود الفقري لـ"الترامبية"
التفسير الأول والأهم لهذه التعيينات هو أهمية “الولاء الشخصي” في منظومة ترامب الفكرية، يعتقد المحللون أن ترامب في هذه التعيينات يولي اهتماماً أكبر للولاء السياسي والشخصي أكثر من الخبرة والتخصص.
لدی ترامب تجربة مريرة من فترة رئاسته الأولى، حيث وقف بعض من عيّنهم ضده لاحقاً، من تسريب المعلومات إلى الإدلاء بشهادات أمام الكونغرس، ونتيجةً لذلك، توصل ترامب في الدورة الجديدة إلى معيار أساسي: “الولاء يسبق التخصص”.
هذا الولاء ليس مجرد عنصر سياسي، بل جزء من حركة ترامب السياسية (MAGA)، ما يشير إليه بعض المحللين بـ"الحركة الترامبية" هو شبكة من النشطاء الإعلاميين، والشخصيات المحلية، والقادة الدينيين، والمهاجرين المؤيدين لترامب، والمستثمرين من القطاع الخاص الذين تشكلوا بصورة عضوية حوله ومنحوه هويةً مستقلةً عن الحزب الجمهوري.
التعيينات الأخيرة تعني مكافأة الأعضاء النشطين في هذه الشبكة، نوع من توزيع الغنائم السياسية لترسيخ الولاء طويل الأمد، كما أظهر ترامب مراراً عدم ثقته بالهياكل البيروقراطية في واشنطن، فتجربة تسريب المحادثات الدبلوماسية، وتسرب الوثائق، والمقاومة الهيكلية لبعض السياسات - مثل التقارب مع روسيا والابتعاد عن الناتو - جعلته يعتقد أن “الدولة العميقة” في واشنطن تُحبط آراء الرئيس، إنه يفضّل العمل مع أشخاص يكونون مسؤولين أمامه مباشرةً ويتمتعون بمرونة أكبر في صنع القرار.
هذا النهج واضح تماماً في طريقة تعامله مع ماركو روبيو وزير الخارجية والشخصية المعروفة في الحزب الجمهوري، فرغم أن ترامب، بعد استقالة مايكل والتز مستشار الأمن القومي في يونيو الماضي، لم يعين بديلاً له بعد وأسند هذا المنصب إلى روبيو، إلا أن دور الأخير في دوائر صنع القرار الرئيسية لا يزال هامشياً.
تتميز المؤسسات الدبلوماسية الأمريكية، وخاصةً وزارة الخارجية، بهيكل معقد وهرمي يعيق أحياناً التنفيذ السريع للسياسات، يسعى ترامب، من خلال تعيين ممثلين خاصين يتواصلون معه مباشرةً، إلى الالتفاف على هذه الهياكل وتسهيل عملية صنع القرار، هؤلاء الأفراد، على عكس الدبلوماسيين المحترفين، أقل التزاماً بالمبادئ والإجراءات التقليدية وأكثر استعداداً لتنفيذ أوامر الرئيس المباشرة.
قضية أخرى هي اعتقاد ترامب بأن أمريكا، لمنع تراجع هيمنتها أمام منافسين جدد مثل الصين، تحتاج إلى نهج أكثر عدوانيةً، من وجهة نظره، تأثرت بنية وزارة الخارجية منذ عقود بالميول الليبرالية والتكنوقراطية المحافظة، ويجب تقليص دور هذه الشخصيات في صنع السياسات، مثال بارز على نهج ترامب المماثل في وزارة الخارجية، يمكن رؤيته في تغيير اسم وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب، حيث تحدث هو ووزير الحرب بيتر هيغزت، خلال اجتماع غير مسبوق مع القادة العسكريين الرئيسيين، عن نهاية عصر ما وصفه هيغزت بالطبيعة الدفاعية للجيش الأمريكي.
من ناحية أخرى، يدرك ترامب أن فوزه في الولايات المتأرجحة قد اعتمد على مشاركة الأقليات، فقد ازداد دعم قطاع من المجتمعات العربية والمسلمة الأمريكية له نسبياً في السنوات الأخيرة. إن منح المناصب الدبلوماسية لبعض الشخصيات الشابة من هذه المجتمعات، مفيد لترامب من عدة جوانب: 1- تعزيز شبكة الموالين من الأقليات؛ 2- إرسال رسالة رمزية إلى الدول الخليجية؛ 3- تحطيم الصورة المعادية للإسلام التي تنسبها إليه وسائل الإعلام.
وعليه، يرى المحللون تعيين غالب جزءاً من استراتيجية إعادة بناء صورته لدى المجتمعات المسلمة.
تداعيات هذا النهج: فرصة أم تهديد؟
لنهج ترامب في تعيين شخصيات غير تقليدية تداعيات متعددة على السياسة الخارجية الأمريكية:
• تراجع التماسك المؤسسي: إن تجاهل وزارة الخارجية والمؤسسات المتخصصة قد يؤدي إلى إضعاف التماسك في السياسة الخارجية، وإرسال رسائل متناقضة للشركاء الدوليين.
• تزايد المخاطر الدبلوماسية: قد يؤدي نقص الخبرة الكافية بين الممثلين الخاصين، عند مواجهة أزمات دولية معقدة، إلى قرارات خاطئة أو غير فعالة.
• تعاظم نفوذ جماعات الضغط: يعتقد بعض المحللين أن هذه التعيينات تتم بهدف كسب دعم جماعات ضغط معينة، خاصةً اللوبي اليهودي في واشنطن، وقد يحرف هذا السياسة الخارجية الأمريكية من مسار المصالح الوطنية نحو مصالح مجموعات معينة، على سبيل المثال، يقال إن اختيار ساوايا كان لإرضاء اللوبي الصهيوني لأنه لعب دوراً فعالاً سابقاً في تحرير إليزابيث تسوركوف، الباحثة الإسرائيلية-الروسية، من أيدي المسلحين العراقيين.
• تنامي شخصنة السياسة الخارجية: مع التركيز على العلاقات الشخصية والولاء، تصبح السياسة الخارجية الأمريكية أكثر اعتماداً على الإرادة الفردية للرئيس، مما قد يقلّل استقرارها وإمكانية التنبؤ بها.
الدبلوماسية في خدمة الترامبية
يعكس نهج دونالد ترامب في تعيين شخصيات موالية وغير تقليدية في مناصب رئيسية بالسياسة الخارجية فلسفته السياسية: عدم الثقة بالمؤسسات، والتركيز على الولاء الشخصي، والسعي للسيطرة المباشرة على عملية صنع القرار، ورغم أن هذه السياسة قد تساعد في تنفيذ البرامج بسرعة أكبر على المدى القصير، إلا أنها قد تؤدي على المدى الطويل إلى إضعاف المؤسسات الدبلوماسية، وزيادة المخاطر الدولية، وتراجع مصداقية أمريكا العالمية.
في النهاية، لا يعكس هذا النهج أسلوب قيادة ترامب فحسب، بل هو مؤشر على تحول أعمق في السياسة الأمريكية: الانتقال من الدبلوماسية المؤسسية إلى الدبلوماسية الشخصية، ومن التخصص إلى الولاء، ومن الهيكل إلى الشخصية.
