الوقت- تشير المعلومات التي كشفتها التقارير الحقوقية والإعلامية حول نقل فلسطينيين من غزة إلى جنوب إفريقيا عبر رحلات غامضة نظّمها كيان الاحتلال الإسرائيلي إلى وجود مخطط يتجاوز ما يُسوّق له على أنه “هجرة طوعية”. فكل تفاصيل العملية التي جرت بعيداً عن الإعلام—من عدم ختم جوازات السفر إلى إخفاء وجهة المسافرين تضع الحدث في إطار سياسة تهجير قسري تهدف إلى تفريغ غزة من سكانها وإعادة هندستها ديمغرافياً بما يخدم المشروع الاستيطاني الذي يعمل الاحتلال على تمديده منذ عقود. إن ما كشفته هذه الرحلات ليس مجرد عملية نقل غامضة، بل اختبار أولي لطريقة ترحيل يمكن استخدامها لاحقاً على نطاق أكبر، حين تتوفر الظروف السياسية الدولية الملائمة.
لماذا ينفّذ الاحتلال عمليات التهجير بهذه السرية؟
منذ بدء الحرب، يسعى الاحتلال لفرض واقع جديد في غزة يتيح له التحكم بمستقبلها الأمني والسياسي، معتمداً في ذلك على خطاب قادة اليمين المتطرف الذين يصرّحون بلا مواربة أن “الحل يكمن في الهجرة الطوعية للفلسطينيين”. غير أن مفهوم “الطوعية” هنا ينتمي إلى منطق الاحتلال، لا إلى واقع الفلسطيني الذي يعيش تحت القصف والحصار والدمار. فالتهجير الذي يتم تحت ضغط الجوع والخوف وفقدان المأوى ليس خياراً، بل إكراه. لذلك جاءت الرحلات السرية كآلية لإخفاء الطابع القسري للتهجير وإظهاره في ثوب إجراءات إنسانية، بينما هي في الحقيقة جزء من مشروع سياسي طويل المدى يسعى الاحتلال من خلاله إلى تفريغ غزة تدريجياً من سكانها وإخراج أعداد منهم عبر معابر يخضعها لسيطرته العسكرية.
الرحلات السرية… أدلة واضحة على التخطيط المتعمد
تفاصيل الرحلتين اللتين كشفت التقارير عنهما تؤكد أن الأمر ليس مبادرة فردية ولا عملية إنقاذ إنسانية. فعدم ختم جوازات السفر الذي بدا للوهلة الأولى ثغرة إدارية يهدف في الواقع إلى منع أي عودة محتملة للفلسطينيين، إذ إن أي دولة تستقبل مواطناً بلا ختم خروج رسمي ستعتبره في وضع قانوني إشكالي يجعل عودته شبه مستحيلة. كما أن تحميل أكثر من 160 شخصاً على طائرة بلا شعار، ومن دون إبلاغهم بالوجهة، يرقى إلى مستوى الإخفاء القسري. أما ترك العائلات التي تضم أطفالاً ونساء حوامل داخل طائرة لساعات بلا طعام أو تكييف، فهو امتداد لأساليب الاحتلال في التعامل مع الفلسطينيين باعتبارهم كتلة بشرية يمكن التخلص منها أو تركها لمصير مجهول.
جنوب إفريقيا كوجهة… رسالة سياسية مزدوجة
اختيار جنوب إفريقيا تحديداً يثير أسئلة كثيرة، فهي الدولة التي قادت الدعوى الدولية ضد الاحتلال أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية. ولذلك يبدو أن الاحتلال أراد اختبار قدرة هذه الدولة على التعامل مع موجات من الفلسطينيين، أو ربما إحراجها عبر خلق حالة إنسانية معقدة على أراضيها. تدخل الحكومة الجنوب إفريقية والسفارة الفلسطينية لاحقاً أنقذ الموقف، لكنه كشف حجم الارتباك الذي أحدثته العملية، خاصة في ظل وصول الركاب بلا وثائق مكتملة ولا وجهة معلومة. وفي الوقت ذاته، يرسل الاحتلال إشارة إلى المجتمع الدولي بأن التهجير أمر ممكن وقابل للتنفيذ متى توفرت الأطراف المستعدة للتعاون.
الاحتلال ومشروع تحويل غزة إلى "أرض بلا شعب"
يتزامن هذا الحدث مع تصاعد تصريحات وزراء الاحتلال حول ضرورة تشجيع الفلسطينيين على مغادرة غزة، وهي تصريحات تنسجم مع المسار التاريخي للمشروع الاستعماري الذي يسعى إلى إفراغ الأرض من أهلها. فكل المؤشرات من رفض الاحتلال الاعتراف بأي حديث عن دولة فلسطينية، إلى استمرار التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، إلى طرح تصورات لإدارة غزة بعد الحرب تقوم على إخراج جزء كبير من سكانها—تدل على أن الهدف المركزي هو إعادة تشكيل الواقع الديمغرافي بالكامل. وبذلك تصبح الرحلات السرية حلقة من سلسلة طويلة وليست حدثاً معزولاً.
الموقف المصري، خط دفاع سياسي ضد التهجير
في هذا السياق، يبرز الموقف المصري بوصفه عاملاً حاسماً، إذ أعلنت القاهرة بوضوح رفضها لأي مخطط يهدف إلى تهجير الفلسطينيين أو تقسيم غزة، مؤكدة أن وحدة الأراضي الفلسطينية شرط أساسي لأي مسار سياسي. هذا الموقف لا يعكس فقط موقفاً قومياً أو إنسانياً، بل يعبّر أيضاً عن إدراك مصري لخطورة أي مشروع تهجير على الأمن الإقليمي. فحدود غزة الجنوبية تمر عبر مصر، وأي محاولة لفرض واقع تهجيري تمر حتماً عبرها، لذلك كان رفضها حاسماً في تعطيل كثير من المخططات التي كان يمكن أن تتطور لو أن القاهرة وافقت على فتح ممرات لجوء واسعة.
البعد الإنساني.. الفلسطينيون بين ضياع جديد ولجوء بلا أفق
وراء كل عملية تهجير توجد مأساة إنسانية معقدة، والركاب الذين وصلوا إلى جنوب إفريقيا لم يكونوا سوى نموذج صغير لمعاناة الفلسطينيين. فقد وجد العشرات أنفسهم بلا طعام ولا هواتف ولا معرفة بمكان وجودهم، وبعضهم بدون حقائب أو حتى بملابس النوم، ومعهم أطفال ونساء في ظروف لا تليق بالبشر. هذه التجربة القاسية تشبه إلى حد كبير مشاهد النزوح داخل غزة نفسها، لكنها هنا تأخذ بعداً جديداً، حيث يتحول الفلسطيني إلى شخص منقول من مكان حرب إلى مكان مجهول لا يعرف فيه أحد ولا يحمل وثائق مكتملة ولا يدري إن كان سيتمكن من بدء حياة جديدة أم سيظل عالقاً في المجهول.
جنوب إفريقيا ليست الهدف النهائي… اختبار لما هو أكبر
تشير التحليلات إلى أن هذه الرحلات ليست سوى مقدمة لمسار تهجيري أوسع. فالاحتلال يريد تجربة نموذج “الترحيل المنظّم” إلى دولة بعيدة لقياس ردود الفعل الدولية، ومعرفة مدى استعداد دول أخرى لتكرار التجربة. وإذا مرّ الحدث بلا إدانة قوية وبلا مساءلة، فإن الاحتلال قد يرى فيه بوابة لموجات تهجير مستقبلية أكبر، تمتد إلى دول إفريقية أو آسيوية، وربما أوروبية إذا تغيّرت الظروف السياسية. وكأن ما يجري هو تأسيس لـ “سابقة قانونية وإنسانية” يمكن استخدامها لاحقاً لتبرير عمليات ترحيل أوسع.
تهجير ممنهج يستدعي مواجهة دولية
ما حدث ليس مرحلة عابرة، بل خطوة ضمن مشروع أكبر يهدف إلى إعادة تشكيل غزة ديمغرافياً وجغرافياً بما يخدم الاحتلال. فالتحكم بالسكان ومنع عودتهم وخلق واقع أمني جديد كلها عناصر في خطة تسعى إلى تحويل الفلسطينيين إلى مجموعات متناثرة خارج أرضهم. وإذا لم تكن هناك مواجهة قانونية وسياسية جدية لهذا التوجه، فقد يجد العالم نفسه أمام نكبة جديدة، لكن بوسائل أكثر تعقيداً وحداثة، وبغطاء سياسي دولي غير مباشر. إن الردع الدولي وحده قادر على إيقاف مثل هذه المشاريع قبل أن تتحول من رحلات سرية محدودة إلى موجات تهجير جماعية تغير وجه المنطقة لعقود قادمة.
