الوقت- في تطورٍ غير مسبوق في المشهد العسكري والسياسي الليبي، أعلن الفريق خالد حفتر، رئيس أركان الجيش الوطني الليبي ونجل قائد القوة، خليفة حفتر، عن اتفاقٍ على تشكيل "قوة مشتركة" خلال اجتماعٍ بمدينة سرت مع قادة كتائب مصراتة، هذه الخطوة، التي تُعتبر أول لقاءٍ علني بين الطرفين المتحاربين منذ حروب 2019، قد تُشكّل نقطة تحولٍ في مسار توحيد المؤسسات العسكرية وتخفيف التوترات الداخلية.
أبعاد الاتفاق الجديد
يأتي الاتفاق عشية الذكرى الخامسة لاتفاق وقف إطلاق النار بين شرق ليبيا وغربها، والذي التزمت بموجبه اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) بحل جميع التشكيلات المسلحة والميليشيات في جميع أنحاء البلاد، وفي الواقع، لا تزال مسألة الميليشيات من أهم التحديات التي تواجه السلطات التنفيذية في طرابلس.
وفي اجتماع عُقد مؤخرًا، شدد خالد حفتر على ضرورة البدء بـ"خطوات عملية لتوحيد المؤسسة العسكرية"، كما أعلن اللواء خالد المحجوب أن الاتفاق أفضى إلى تشكيل قوة مشتركة لمكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية، ومن المقرر أن تشارك هذه القوة المشتركة في مناورات "فلينتلوك 26" التي تنظمها القيادة الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم)، وستُعقد هذه المناورات في سرت في الربع الأول من العام المقبل، وتهدف إلى زيادة التنسيق بين قوات شرق ليبيا وغربها.
تنوع وتشتت الجماعات العسكرية
منذ سقوط نظام معمر القذافي عام ٢٠١١، شهدت ليبيا ظهور عشرات الجماعات المسلحة، عمل العديد منها رسميًا أو غير رسمي في ظل حكومات مختلفة، يتمركز الجيش الوطني الليبي، بقيادة خليفة حفتر، في شرق البلاد، بينما سيطرت قوات حكومة الوفاق الوطني، على غرب البلاد، وخاصة في طرابلس ومصراتة، وشهد عام ٢٠١٩ ذروة هذه الأعمال العدائية، حيث لعبت كتائب مصراتة دورًا رئيسيًا في صد هجوم الجيش الوطني على طرابلس.
أهم الجماعات العسكرية النشطة حاليًا هي:
• الجيش الوطني الليبي: بقيادة خليفة حفتر، ويتمركز في شرق البلاد، تتميز هذه القوات بهيكلية أكثر انتظامًا، وتحظى بدعم بعض الدول مثل روسيا والإمارات العربية المتحدة ومصر.
• القوات التابعة لحكومة الوفاق الوطني: تتمركز في غرب ليبيا، وخاصة في طرابلس ومصراتة، تضم هذه القوات مجموعة من الجماعات المسلحة المحلية التي، على الرغم من أنها تعمل رسميًا تحت إشراف الحكومة، تتمتع بدرجة عالية من الاستقلالية العملياتية.
• لواء 444: أحد أقوى الجماعات المسلحة في طرابلس، تأسس عام 2021 بقيادة محمود حمزة، القائد البارز في كتيبة الردع الخاصة، وسّعت المجموعة نفوذها في الأحياء الجنوبية الغربية من العاصمة، بما في ذلك عين زارة والفرنجة وصلاح الدين وقصر بن غشير، من خلال السيطرة على معسكرات رئيسية، أبرزها معسكر اليرموك ومقر المنطقة العسكرية بطرابلس.
• قوة الردع الخاصة (جهاز الردع): بقيادة عبد الرؤوف كار، تتمتع بنفوذ كبير في طرابلس، تسيطر على بعض السجون، وقد اتُهمت مرارًا وتكرارًا بانتهاكات حقوق الإنسان.
• جهاز دعم الاستقرار: بقيادة عبد الغني الككلي (الغنوية)، الذي اغتيل في الصراعات الداخلية الأخيرة في مايو 2025، وحل محله أبو ضريبة.
• كتائب مصراتة: مجموعة من الجماعات المسلحة في مدينة مصراتة، كانت تعمل سابقًا في إطار حكومة الوفاق الوطني، ودخلت مؤخرًا في محادثات مع الجيش الوطني الليبي لتشكيل قوة مشتركة.
تاريخ الصراعات الأخيرة
استمرت الصراعات المسلحة في ليبيا عام 2025، وتركزت بشكل رئيسي في المناطق الغربية من البلاد، ومن أهم الحالات:
1) طرابلس (مايو 2025): اشتباكات عنيفة بين اللواء 444 وجهاز الردع بعد مقتل عبد الغني الككلي خلال اجتماع رسمي، أسفرت هذه الاشتباكات عن مقتل وإصابة العشرات، وأثارت حالة من الذعر بين المدنيين.
2) مصراتة (أكتوبر 2025): اشتباكات بين قوات العمليات المشتركة والكتيبة 24 مشاة، وكلاهما تابع لحكومة الوفاق الوطني، اندلعت الاشتباكات بعد اعتقال أحد أفراد القوات، وأسفرت عن إطلاق نار كثيف بالأسلحة الثقيلة، وأسفرت عن إصابة 11 مدنياً، وإغلاق مطار مصراتة الدولي مؤقتاً، وكانت هذه هي المرة الأولى منذ الإطاحة بالرئيس الليبي السابق معمر القذافي عام 2011 التي تشهد فيها مصراتة، ثالث أكبر مدن ليبيا، قتالاً بين جماعات مسلحة، وتقع مصراتة على بُعد حوالي 200 كيلومتر (125 ميلاً) شرق طرابلس، وهي موطن لبعض أقوى التشكيلات المسلحة في البلاد، والتي لعبت دوراً رئيسياً في دعم الدبيبة ضد "قوة الردع الخاصة" بقيادة عبد الرؤوف كارة.
3) الزاوية وسبها: في الـ 27 من أغسطس/آب، تحولت مدينة الزاوية الساحلية إلى بؤرة توتر مجددًا. اشتبكت جماعات مسلحة متنافسة بالأسلحة الثقيلة في المناطق السكنية، مما أسفر عن سقوط ضحايا وأضرار جسيمة، وتم احتواء هذه الاشتباكات المتقطعة بين الجماعات المسلحة المحلية للسيطرة على موارد النفط وطرق التهريب والمناطق الاستراتيجية بفضل تدخل المجلس الرئاسي وقوات الأمن.
ردود الفعل والتحديات
على الرغم من أهمية الاتفاق، اتسمت ردود فعل المؤسسات التابعة لحكومة الوفاق الوطني بالحذر، بل والسلبية، ونفى جهاز مكافحة الإرهاب التابع لحكومة الوفاق الوطني مشاركته في اجتماع سرت، واصفًا إياه بأنه "شائعة"، ويعكس هذا الموقف الانقسام العميق بين المؤسسات الأمنية في غرب ليبيا وجهود الجيش الوطني لتحقيق الوحدة، وفي غضون ذلك، أبرزت الاشتباكات الأخيرة في مصراتة أزمة التوازي وغياب السيطرة المركزية على الجماعات المسلحة، ما أثار موجة من الانتقادات لحكومة الوفاق الوطني.
وترسم تقارير منظمات حقوق الإنسان صورة قاتمة لهذا العجز عن السيطرة على المسلحين، تشير التقارير إلى انتشار الاعتقالات التعسفية والقتل خارج نطاق القضاء والاختفاء القسري على نطاق واسع، ويُعتقد أن ما لا يقل عن 20 شخصًا محتجزين لأسباب سياسية قد لقوا حتفهم أثناء احتجازهم بين مارس/آذار 2024 وسبتمبر/أيلول 2025، ولا تزال المساءلة بعيدة المنال، إذ تواجه المؤسسات القضائية تدخلات وخوفًا من الانتقام.
وفي غضون ذلك، أدى الانقسام السياسي والعسكري في طرابلس إلى تعميق الفراغ الحكومي، ومهد الطريق لإعادة تنظيم الجماعات التكفيرية مثل "داعش"، وتُظهر اعتقالات "داعش" الأخيرة واستئنافها لدعايتها أن ليبيا لا تزال تلعب دورًا مستدامًا كمركز للنشاط والإمداد اللوجستي والأيديولوجي لتنظيم "داعش".
خلاصة الكلام
يُعدّ تعدد الجماعات المسلحة وغياب السيطرة المركزية عليها من أهم العوائق أمام تحقيق الاستقرار والأمن الدائمين في ليبيا، وتُظهر الاشتباكات الأخيرة أنه حتى في إطار حكومة الوحدة الوطنية، هناك نقص في التنسيق بين قوات الأمن. وهذا الوضع لا يُهدد أمن المواطنين فحسب، بل يُعرّض أيضًا الاتفاقات السياسية وجهود الوحدة العسكرية للخطر.
ورغم أن اتفاق خالد حفتر مع كتائب مصراتة يُعدّ خطوةً مهمةً نحو الوحدة العسكرية، إلا أنه يواجه تحدياتٍ جسيمة في ظلّ الأزمات الأمنية، والعمليات المتوازية للجماعات المسلحة، وانعدام الثقة بين المؤسسات الغربية والشرقية، لتحقيق استقرارٍ دائم، تحتاج ليبيا إلى إصلاحاتٍ هيكلية، ونزع سلاح الجماعات غير الرسمية، وإشرافٍ دولي على عملية دمج القوات العسكرية.
