الوقت- رغم الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بعد شهور طويلة من الحرب والدمار، فإنّ المشهد الإنساني لا يزال قاتمًا، والهدوء الهش الذي خيّم على القطاع يبدو مهددًا بالانهيار في أي لحظة، فبينما يترقب سكان غزة وصول المساعدات التي وُعدوا بها كأحد أهم بنود الاتفاق، تتكدّس آلاف الشاحنات المحمّلة بالغذاء والدواء على المعابر الحدودية دون أن يُسمح لها بالدخول، في وقت يعيش فيه أكثر من مليوني إنسان على حافة الجوع والموت البطيء.
إنّ التلكؤ المتعمّد من جانب كيان الاحتلال الإسرائيلي في تنفيذ الالتزامات الإنسانية يعيد الشكوك حول جدّية الاتفاق ويفتح الباب أمام تصعيد جديد، فيما تحذّر الأمم المتحدة، وعلى رأسها منظمة اليونيسف، من أنّ كل ساعة تأخير تعني مزيدًا من الضحايا، وخصوصًا بين الأطفال والمرضى، ومع غياب ضغط حقيقي من الدول الضامنة، يبدو أن وقف إطلاق النار بات رهينة شاحنات الإغاثة المحتجزة على الحدود، وأنّ معركة البقاء في غزة لم تنتهِ بعد، بل انتقلت من ميدان السلاح إلى ميدان الجوع.
وفي ظل هذا الجمود الخطير، تتحمل الدول الضامنة لاتفاق وقف إطلاق النار – وعلى رأسها مصر وقطر والولايات المتحدة – مسؤولية مباشرة عن ضمان تنفيذ البنود الإنسانية للاتفاق، فواجبها لا يقتصر على مراقبة الهدوء الميداني، بل يمتد إلى الضغط الفعلي على كيان الاحتلال الإسرائيلي لإدخال المساعدات فورًا، ومنع استخدام الغذاء والدواء كورقة تفاوض أو ابتزاز سياسي على حساب حياة المدنيين في غزة.
اليونيسيف تحذر من كارثة إنسانية وضرورة إدخال المساعدات فورًا
من جانبها دعت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، إلى فتح المعابر للسماح بتدفق جميع المساعدات الإنسانية بسرعة ودون عوائق، لمساعدة الفلسطينيين العائدين إلى منازلهم في غزة، وقالت المتحدثة باسم اليونيسيف، تيس إنغرام، عبر منصة إكس:
9 من كل 10 منازل في قطاع غزة تضررت أو دُمرت، يعود الأطفال في غزة إلى الركام"، مضيفة إن الاحتياجات في القطاع هائلة ولا يمكن تأجيل تدخل الإغاثة، وأوضحت أن لدى المنظمة أكثر من 1300 شاحنة من المساعدات جاهزة خارج غزة، تشمل الخيام، الملابس، الإمدادات الغذائية والطبية، وغيرها من المواد الضرورية لإعادة الحياة إلى آلاف الأسر الفلسطينية.
وشددت إنغرام على أن "يجب السماح بدخول جميع المساعدات الإنسانية والإمدادات التجارية دون عوائق وعلى نطاق واسع، ويجب أن يُحترم وقف إطلاق النار"، محذرة من أن التأخير المستمر في إيصال هذه المساعدات قد يؤدي إلى كارثة إنسانية جديدة.
البرنامج الغذائي العالمي: أقل من ثلث الشاحنات تدخل غزة
وفي وقت سابق، أكد روس سميث، مسؤول الاستجابة للطوارئ في برنامج الأغذية العالمي، أن كيان الاحتلال لم يسمح بدخول سوى أقل من ثلث شاحنات المساعدات المتفق عليها منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار.
وقال سميث :تعهد كيان الاحتلال الاسرائيلي بالسماح بدخول 600 شاحنة مساعدات إلى غزة يوميًا لم يُنفذ، حيث سجل البرنامج دخول أقل من 200 شاحنة فقط يوميًا خلال الأيام الأربعة الماضية.
هذا التلكؤ في إدخال المساعدات يزيد من معاناة السكان ويهدد استقرار القطاع، ويعكس عمق الأزمة الإنسانية التي تواجهها غزة، بعد سنوات من الحصار المستمر والحروب المتكررة.
دعوة عاجلة لفتح المعابر فورًا
بالإضافة إلى اليونيسف وبرنامج الأغذية العالمي، طالب توم فليتشر، مسؤول مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، كيان الاحتلال الاسرائيلي بفتح المعابر فورًا لإدخال المساعدات إلى غزة، وقال فليتشر في مقابلة مع وكالة الصحافة الفرنسية:
"يجب السماح بدخول المساعدات الإنسانية دون تأخير، فالحياة اليومية لسكان غزة تعتمد على كل شاحنة تدخل القطاع."
وتتضمن هذه المساعدات المواد الغذائية الأساسية، الأدوية، المعدات الطبية، والمستلزمات الضرورية لإعادة الأطفال والنساء والمرضى إلى حياة كريمة، ويعتبر فليتشر أن أي تأخير إضافي في إدخال المساعدات هو مماطلة خطيرة تنتهك القانون الدولي الإنساني.
الحصار المستمر يضاعف معاناة المدنيين
تؤكد التقارير الميدانية أن الوضع في غزة يزداد سوءًا مع كل يوم تأخير، فالمستشفيات تعاني من نقص شديد في الأدوية والمستلزمات الطبية، وأجهزة الطوارئ تعمل بطاقة محدودة بسبب انقطاع الكهرباء ونقص الوقود، بينما يعتمد آلاف الأطفال على وجبات غير كافية تغذيهم بشكل ناقص وتزيد من معدلات سوء التغذية الحاد.
ومع تكدس الشاحنات على المعابر ورفض كيان الاحتلال السماح بمرورها، يعيش السكان على حدود كارثة غذائية وصحية قد تكون الأسوأ منذ سنوات طويلة، ويشير مسؤولو الأمم المتحدة إلى أن الأطفال والرضع هم الفئة الأكثر تضررًا، حيث إن نقص الغذاء والمياه النظيفة يؤدي إلى تفشي الأمراض والإصابة بالجفاف والتقزم، مع تأثيرات طويلة الأمد على صحتهم ونموهم.
الدول الضامنة أمام مسؤولية أخلاقية وقانونية
إن استمرار تعطيل إدخال المساعدات يضع الدول الضامنة للاتفاق – مثل مصر وقطر والولايات المتحدة – أمام مسؤولية مباشرة وأخلاقية وقانونية، فهذه الدول لديها النفوذ اللازم للضغط على كيان الاحتلال الإسرائيلي لفتح المعابر فورًا وضمان وصول المساعدات إلى المدنيين دون أي شروط سياسية أو أمنية.
وأكدت اليونيسيف وبرنامج الأغذية العالمي أن كل ساعة تأخير في إدخال المساعدات تعني مزيدًا من الأرواح المهددة بالموت، وأن على المجتمع الدولي أن يضع حماية المدنيين وسلامة الأطفال في صلب أولوياته، بعيدًا عن المناورات السياسية أو المزايدات الإعلامية.
المساعدات الإنسانية ليست خيارًا بل واجبًا
بين أروقة المفاوضات والبيانات الرسمية، يعلو صوت واحد صادق وواضح من غزة: "نريد أن نعيش"، هذا ما تلخصه اليونيسيف في نداءها الأخير إلى المجتمع الدولي، مؤكدة أن أي اتفاق لوقف إطلاق النار لن يكون له معنى إن لم يتضمن التزامًا فوريًا بإدخال المساعدات وإنقاذ حياة المدنيين، فتأخيرها يعني استمرار معاناة ملايين الفلسطينيين، وتعريض حياة الأطفال والمرضى للخطر.
وفي الوقت الذي يواصل فيه كيان الاحتلال تعطيل مرور الشاحنات، يبقى العالم أمام اختبار أخلاقي واضح: هل سيضمن احترام حقوق الإنسان الأساسية، أم سيبقى وقف إطلاق النار مجرد بند سياسي على الورق بينما يستمر الجوع والمرض في غزة؟
إن على الدول الضامنة للاتفاق تحمل مسؤولياتها كاملة، وضمان وصول المساعدات فورًا، لتكون حماية حياة المدنيين في غزة على رأس الأولويات، وليس مجرد وعود تأجيلية بلا تنفيذ.
لقد آن الأوان لأن يدرك العالم أن الحديث عن "هدنة" بلا طعام ودواء هو خداع للضمير، وأن أولوية أي اتفاق سلام حقيقي يجب أن تكون حياة الناس، لا مصالح السياسة ولا موازنات القوة، فالحرب قد تتوقف على الورق، لكن الموت في غزة ما زال مستمرًا بصمت الجوع والمرض والحصار.