الوقت- في الذكرى السنوية لثورة الرابع عشر من أكتوبر، التي تمثل رمزاً للتحرر الوطني في اليمن، ألقى مهدي المشاط، رئيس المجلس السياسي الأعلى، خطاباً سياسياً حمل أبعاداً داخلية وإقليمية بالغة الأهمية. دعا فيه النظام السعودي إلى إنهاء العدوان والحصار المفروضين على اليمن منذ أكثر من تسع سنوات، مؤكداً التزام صنعاء بخيار السلام المشرف الذي يحفظ لليمنيين سيادتهم وكرامتهم. تأتي هذه الدعوة في لحظة إقليمية حساسة، تتقاطع فيها الأزمات السياسية والعسكرية من فلسطين إلى البحر الأحمر، ما يجعل موقف صنعاء ليس مجرد تصريح سياسي، بل رسالة استراتيجية تعكس توازن القوى الجديد في المنطقة. خطاب المشاط لم يكن فقط نداءً لوقف الحرب، بل أيضاً إعلاناً عن استعداد اليمن للدفاع عن مكتسباته والتعامل مع أي تطور في الساحة الإقليمية، في ظل إدراك متزايد بأن مستقبل المنطقة مرهون بإنهاء العدوان والحصار والاحتلال.
قراءة في خطاب المشاط ودلالاته السياسية
خطاب مهدي المشاط جاء في توقيت دقيق يعكس تغيراً في المشهد اليمني والإقليمي. فمن جهة، يبدو أن صنعاء باتت أكثر ثقة بقدرتها على فرض معادلة الردع، بعد سنوات من الصمود العسكري والسياسي أمام التحالف الذي تقوده السعودية، ومن جهة أخرى، فإن الخطاب حمل رسائل واضحة مفادها بأن اليمن لم يعد طرفاً ضعيفاً ينتظر حلولاً خارجية، بل أصبح لاعباً إقليمياً يطالب بسلام عادل قائم على الندية والسيادة. المشاط شدد على أن استمرار العدوان والحصار لا يخدم أي طرف، وأن إنهاء الحرب هو السبيل الوحيد لإغلاق الباب أمام محاولات القوى المعادية للأمة، وخاصة الكيان الصهيوني، لاستغلال الصراع بين الدول العربية والإسلامية، هذه الرسائل لم توجه فقط إلى الرياض، بل أيضاً إلى الأطراف الدولية التي ما زالت تراهن على إبقاء اليمن ساحة صراع بالوكالة، من خلال هذا الخطاب، أراد المشاط أن يؤكد أن صنعاء تمتلك الإرادة السياسية والعسكرية الكفيلة بفرض واقع جديد، قائم على الاحترام المتبادل لا على الإملاءات.
الحرب في اليمن.. بين واقع الميدان وضغوط التحالف
منذ اندلاع العدوان في مارس 2015، تحولت الحرب في اليمن إلى واحدة من أكثر الأزمات الإنسانية والسياسية تعقيداً في المنطقة.، فبعد تسع سنوات من العمليات العسكرية، لم يتمكن التحالف بقيادة السعودية من تحقيق أهدافه المعلنة، بينما تمكنت قوات صنعاء من تعزيز قدراتها الدفاعية والهجومية بشكل لافت. الحصار المفروض على الموانئ والمطارات فاقم معاناة الشعب اليمني، وأدى إلى تدهور الاقتصاد وتفاقم الأوضاع الإنسانية، ومع ذلك، استطاعت صنعاء، رغم كل الضغوط، أن تثبت صلابتها عبر تطوير منظوماتها الصاروخية والطائرات المسيّرة، ما جعلها رقماً صعباً في معادلات الردع الإقليمي.
في المقابل، تواجه السعودية تحديات داخلية وإقليمية متزايدة، وتبدو أكثر ميلاً إلى البحث عن تسوية تحفظ مصالحها بعد أن أصبحت تكلفة الحرب السياسية والاقتصادية باهظة، وفي ظل التحولات في المنطقة، وخاصة بعد تصاعد الصراع في غزة، يزداد الإدراك بأن استمرار الحرب في اليمن لم يعد يخدم سوى القوى الأجنبية التي تسعى لإبقاء المنطقة في حالة استنزاف دائم.
آفاق السلام ومسؤولية الأطراف الإقليمية
رغم تعقيدات المشهد، تبدو فرص السلام في اليمن أكثر واقعية من أي وقت مضى، شرط أن تلتزم الأطراف المعنية، وخاصة السعودية، بخارطة طريق واضحة تنهي الحصار والعدوان وتؤسس لعلاقات قائمة على حسن الجوار والمصالح المشتركة، خطاب المشاط حمل إشارات إيجابية إلى استعداد صنعاء للانخراط في أي عملية سياسية تضمن سيادة اليمن واستقلال قراره الوطني، غير أن نجاح أي تسوية يتوقف على مدى جدية الأطراف الإقليمية والدولية في ترجمة تصريحاتها إلى خطوات عملية، المطلوب اليوم هو انتقال من لغة الحرب إلى منطق الشراكة، ومن الحلول العسكرية إلى الحلول الدبلوماسية، كما أن الدور العُماني والوساطات الإقليمية يمكن أن يشكل جسراً لإحياء المفاوضات المتوقفة، وخاصة في ظل توافق إقليمي متنامٍ على ضرورة إغلاق ملف الحرب. إن تحقيق السلام في اليمن لا يعني فقط إنهاء نزاع داخلي، بل يمثل أيضاً خطوة نحو استقرار المنطقة بأسرها، التي أنهكتها الحروب والتدخلات الأجنبية.
في النهاية، خطاب مهدي المشاط لم يكن مجرد تكرار للمطالب اليمنية، بل تجسيد لرؤية وطنية تعكس نضجاً سياسياً واستيعاباً لمعادلات القوة الإقليمية، فبعد سنوات من الصمود، يبرز اليمن اليوم كدولة تسعى للسلام من موقع قوة لا من موقع ضعف، الرسالة الأساسية التي وجهها المشاط إلى الرياض والعالم هي أن إنهاء العدوان والحصار ليس تنازلاً، بل خطوة ضرورية لإحلال الأمن والاستقرار في المنطقة، إن استمرار الحرب لم يعد خياراً مقبولاً، لا سياسياً ولا إنسانياً، بينما السلام العادل والشامل هو السبيل الوحيد لضمان مستقبل مزدهر للجميع، واليمن، الذي خاض معركة الوجود بعزيمة وثبات، أثبت أنه قادر على الدفاع عن سيادته وبناء علاقاته وفق مبادئ الندية والاحترام المتبادل، إن إنهاء العدوان هو ليس فقط مطلباً يمنياً، بل ضرورة إقليمية لإغلاق صفحة دامية وفتح أفق جديد من التعاون والتكامل العربي.