الوقت- تشهد الساحة الغزّية في الأيام الأخيرة واحدة من أكثر المراحل حساسية وتعقيداً منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي المتواصل، إذ أقدمت فصائل المقاومة على تنفيذ إعدامات ميدانية بحق عدد من المتهمين بالتعاون مع الاحتلال، في خطوة وُصفت بأنها «عملية تطهير أمني» تهدف إلى حماية الجبهة الداخلية ومنع تسرب المعلومات التي قد تضعف الميدان المقاوم أو تساهم في استهداف قادته ومراكزه.
هذه الخطوة، وإن بدت قاسية في ظاهرها، تأتي ضمن سياق حرب خفية لا تقل ضراوة عن الحرب العسكرية المشتعلة على الأرض. فبينما تواجه المقاومة القصف اليومي ومحاولات التوغل البري، تخوض في الوقت ذاته حرباً أمنية معقدة ضد العملاء الذين يشكلون «العين الداخلية» للاحتلال داخل القطاع، في مثل هذه الحروب، لا يكون الرصاص وحده سلاح المعركة، بل المعلومة أيضاً، والمعلومة – كما تقول أدبيات الأمن – قد تكون أخطر من القذيفة.
الخيانة كجريمة وطنية: قراءة في دوافع القرار
تُدرك المقاومة أن مواجهة العدو لا يمكن أن تقتصر على خطوط النار الأمامية، بل تمتد إلى كل زاوية من المجتمع الذي تعتمد عليه في الصمود والإسناد،ولهذا، فإن أي خرق أمني يمثل خطراً وجودياً على مشروع المقاومة بأكمله، ولا سيما في ظل محاولات الاحتلال الدؤوبة لتجنيد عملاء داخل غزة عبر الإغراءات المادية أو الابتزاز والتهديد.
من الناحية السياسية والأمنية، يبدو قرار تنفيذ الإعدامات إعلاناً واضحاً بأن المقاومة لن تتهاون في التعامل مع من يثبت تورطه في التعاون مع العدو، الرسالة هنا ليست موجهة فقط إلى المتورطين، بل إلى المجتمع بأسره: «الخط الأحمر هو الخيانة»، فالمعلومات التي يقدمها العميل قد تؤدي إلى استهداف قادة ميدانيين أو مواقع استراتيجية، وهو ما حدث مراراً في جولات القتال السابقة، لذا، فإن الحسم الأمني يُعد وسيلة لردع الآخرين وحماية البنية التحتية للمقاومة.
أبعاد نفسية واجتماعية للحملة الأمنية
لا يمكن قراءة حملة الإعدامات فقط من زاوية عسكرية، بل يجب النظر إليها أيضاً كحدث اجتماعي ونفسي في بيئة تعيش تحت ضغط الحرب والحصار منذ سنوات طويلة، فالمجتمع الغزي، الذي اعتاد التكاتف في وجه العدوان، يرى في «العميل» خيانة لأبسط قيم الانتماء والصمود، لذلك يحظى أي تحرك ضد المتعاونين غالباً بتأييد شعبي واسع، رغم قسوته.
ومع ذلك، تبقى هذه الإجراءات مثار جدل لدى بعض الأوساط الحقوقية التي تخشى أن تؤدي الظروف الأمنية الاستثنائية إلى تهميش الإجراءات القانونية، إلا أن المقاومة، كما يبدو من بياناتها، تسعى لتبرير هذه الخطوات باعتبارها جزءاً من حالة الحرب الشاملة، حيث لا يمكن انتظار المسارات القضائية التقليدية بينما الدماء تنزف والمعلومات تُباع.
من جانب آخر، للحملة أثر نفسي مهم داخل صفوف العدو نفسه. فحين يرى الاحتلال أن محاولاته لاختراق غزة تواجه برد حازم وسريع، فإن ذلك يقلل من قدرته على تجنيد مزيد من العملاء، ويزيد من تكلفة العمل الاستخباري داخل القطاع، وهو ما يشكل إنجازاً أمنياً كبيراً للمقاومة.
حرب المعلومات: معركة الظل التي تحسم الميدان
أدركت المقاومة منذ سنوات أن التفوق الاستخباري والتكنولوجي للعدو يمثل أحد أخطر تحدياتها، إذ اعتمدت اغتيالات وقصف سابق على معلومات داخلية وفّرها عملاء، لذلك أصبح «الأمن المقاوم» ركيزة أساسية في منظومة الصراع إلى جانب الأذرع العسكرية والإعلامية والسياسية.
الحملة الحالية ضد العملاء ليست ردّاً آنياً على خروقات محدودة، بل خطوة استراتيجية لتجفيف منابع الاختراق وبناء جدار من السرية والانضباط حول التحركات الميدانية، فكل معلومة مسرّبة قد تعني خسارة موقع أو قائد.
إنها حرب خفية لا تظهر في نشرات الأخبار، لكنها تحسم نتائج المعركة على الأرض، فحين تتراجع قدرة العدو على جمع المعلومات الدقيقة، يفقد تفوقه، وتكسب المقاومة مساحة أوسع للمناورة والاستمرار.
بين الردع والعدالة: معضلة أخلاقية في زمن الحرب
رغم التأييد الشعبي والإدراك العام لخطورة الخيانة، تبقى مسألة الإعدامات دائماً مثار تساؤل أخلاقي وقانوني، فهناك من يرى أن تنفيذ الأحكام دون محاكمات مدنية شاملة يمثل تجاوزاً لحقوق الأفراد، حتى لو كانوا متهمين بالتعاون مع الاحتلال، وفي المقابل، ترد المقاومة بأن الظروف الاستثنائية للحرب تفرض آليات استثنائية لحماية الأمن القومي.
هذا الجدل ليس جديداً في التاريخ الفلسطيني، إذ شهدت الانتفاضات السابقة مواقف مشابهة، حيث واجهت الفصائل تحدياً في الموازنة بين مقتضيات العدالة وضرورات البقاء. لكن في كل مرة، يبدو أن منطق «الأمن أولاً» هو الذي يغلب، وخاصة حين تكون دماء القادة والمقاتلين ثمرة معلومة واحدة سُرّبت إلى العدو.
في النهاية، تتعامل المقاومة مع العميل ليس كفردٍ منحرف فقط، بل كخطر وجودي يهدد مشروع التحرير برمّته، ولذلك تُقدَّم إجراءات الردع بوصفها جزءاً من معركة الوعي، ورسالة إلى الداخل والخارج معاً بأن الخيانة ثمنها غال.
أمن المقاومة هو أمن المجتمع
ما يجري في غزة اليوم ليس مجرد حملة أمنية، بل عملية إعادة تثبيت للمعادلة التي قامت عليها المقاومة منذ بدايتها: «لا مكان للخيانة في معركة التحرير»، فالمقاومة، وهي تواجه واحدة من أعنف الحملات العسكرية في تاريخها، تدرك أن الحفاظ على صلابتها الداخلية هو شرط الانتصار في أي مواجهة مقبلة.
من زاوية تحليلية، يمكن القول إن الحرب ضد العملاء هي امتداد طبيعي لحرب التحرير نفسها، لأن السيطرة على المعلومة هي الوجه الخفي للسيطرة على الميدان، وبقدر ما تنجح المقاومة في حماية أسرارها، بقدر ما تصمد جبهتها العسكرية والسياسية.
