الوقت – منذ أن زفّ يوم الخميس بشائر اتفاق وقف إطلاق النار وإيذاناً بانتهاء الحرب، ترددت أصداء الفرح وترانيم الرجاء بين أطلال غزة المنكوبة، فبعد شهور من القصف المستعر ومكابدة أهوال المحن، استنشق أهل غزة نسائم الحرية بمقل تترقرق فيها دموع الفرح إيذاناً بانقضاء كابوس جثم على صدورهم عامين؛ فاندفعت الجموع إلى الطرقات مطلقةً هتافات الظفر، أبناء وآباء ذاقوا مرارة العيش في أحضان الفزع والهلع حولين كاملين، يتنسمون الآن شذا السكينة ويتذوقون طعم الهدوء.
ومع سريان نبأ وقف إطلاق النار، اشتعلت جذوة الاحتفالات في ميادين خان يونس وأزقة غزة، تقاطر الناس جماعات ووحداناً إلى الشوارع، رافعين راية فلسطين خفاقةً، مرددين أهازيج النصر وأناشيد الصمود.
وتناقلت منصات التواصل الاجتماعي صوراً تجسّد براءة أطفال يخرجون للنور ببسمات تشق ظلمات الألم، بينما يخط الآباء والأمهات بدموعهم سطور هذه اللحظات التاريخية.
بيد أن هذا الابتهاج تظلّله سحب من الريبة والحذر. يقول بعضهم: “لقد ألفنا واحات السلام العابرة، فهل سيصمد هذا السلام أمام رياح الغدر هذه المرة؟”
عودة الأهالي… مسيرة العزة والكرامة
مع تنفيذ بنود وقف إطلاق النار وانحسار قوات الاحتلال عن بعض أرجاء غزة، شرع آلاف المهجرين الذين لاذوا بجنوب القطاع في العودة إلى ديارهم، مستلهمين من تراب الوطن عزيمة لا تلين.
تدفقت قوافل المهجرين صوب الشمال مستهدفةً مدينة غزة - درة التجمعات الحضرية في القطاع - تلك البقعة التي كانت قبل أيام معدودة هدفاً لأعتى الحملات العسكرية الصهيونية ضراوةً خلال هذه الحرب المستعرة.
أما في جنوب غزة، فتشهد خان يونس وأكنافها تضاؤلاً في وتيرة الغارات الجوية والقذائف المدفعية، ويسعى الأهالي لاستعادة نبض الحياة وإعادة بثّ الروح في أوصال المدينة المنهكة.
على امتداد طريقي الرشيد وصلاح الدين، تتهادى خطوات العائدين، يطوون مسافات العودة سيراً على الأقدام، غالبيتهم، رغم افتقادهم لسقف يؤويهم، ورغم الخراب الذي أحال المعالم إلى أشلاء متناثرة ما يجعل التعرف على ملامح الديار أمراً يستعصي على الأفهام، إلا أنهم يشقون دروبهم بعزم لا يتزعزع إلى أنقاض بيوتهم المتهدمة لينصبوا خيامهم فوق ذكريات الأمس.
قال أحد العائدين من مخيم النصيرات للجزيرة بنبرة تفيض عزةً وإباءً: “لم يبق من البيوت سوى أطلال، لكننا نعود… هذه الأرض معجونة بدمائنا، سنظل شامخين فوق أنقاضها”.
وفي السياق ذاته، أعلنت وزارة الداخلية في غزة أن قوات الأمن والشرطة انتشرت في المناطق التي تقهقرت منها جحافل الاحتلال لإرساء دعائم النظام وتأمين مسالك العودة للمدنيين.
وبالتزامن مع قوافل العودة، أعلن جيش الاحتلال أن “قواته شرعت في الانسحاب من داخل المدن متجهةً نحو الحدود الشرقية”.
أفضت حربان كاملتان إلى دمار هائل طال المباني وشبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحي والمستشفيات والمدارس، وتعرضت أحياء بأكملها لمحو شبه كامل من الخارطة.
كما تصدعت الطرق وتهاوت الجسور وانقطعت سبل الاتصال في مناطق شاسعة، وسيستغرق إعادة إعمارها أزمنةً متطاولةً وأموالاً طائلةً.
انحسار الهجمات وبزوغ فجر الهدوء
استناداً إلى تقرير الجزيرة، تراجعت حدة القصف وخفت أزيز الطائرات المسيرة عقب سريان وقف إطلاق النار، وخيم على الأجواء سكون حذر.
غير أن تقارير متفرقة تشير إلى وقوع هجمات متفرقة وقصف متقطع في بعض المناطق، فعلى سبيل المثال، شهدت أرجاء من خان يونس ومحاور على امتداد منطقة نتساريم، مناوشات محدودة في الساعات الأولى من فجر اليوم التالي لتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار، وأفادت فرق الدفاع المدني بارتقاء فلسطينيين اثنين شهداء في غارة شنتها قوات الاحتلال على منطقة في شمال غرب خان يونس.
وتناقلت وسائل الإعلام أن جيش الاحتلال أعاد تموضع قواته على “خطوط انتشار مستحدثة”، للتمركز في النطاقات المحددة في اتفاق وقف إطلاق النار.
قوافل الإغاثة تشق طريقها إلى القطاع الجريح
يمثّل ضمان تدفق المساعدات الإنسانية إلى غزة، أحد أبرز أركان اتفاق وقف إطلاق النار، ومن المقرر أن تعبر مئات الشاحنات المحملة بالغذاء والدواء والوقود والمستلزمات الحيوية إلى القطاع المنكوب.
ينص الاتفاق على عبور ستمائة شاحنة إغاثية يومياً تحمل المؤن والتجهيزات الطبية ومستلزمات المأوى والوقود وغاز الطهي، ووفقاً لوسائل الإعلام المصرية، تتأهب عشرات الشاحنات المحملة بالمساعدات الإنسانية في مدينة العريش المصرية للانطلاق نحو قطاع غزة.
صرحت الأمم المتحدة بامتلاكها مخزوناً وافراً جاهزاً للإرسال إلى غزة، وتنتظر الضوء الأخضر من سلطات الاحتلال لتوسيع نطاق عمليات التوزيع.
بيد أن العراقيل تتمثل في عدم إمكانية الوصول الشامل لكافة المناطق، إضافةً إلى القيود الأمنية واللوجستية التي قد تعرقل التوزيع العادل للمعونات، كما أن احتمالية وجود ألغام وقذائف غير منفجرة، وأكوام الأنقاض الهائلة، وخطر نيران القناصة الصهاينة، كلها مخاطر تتربص بعودة الأهالي.
في هذا المضمار، أطلق جيش الاحتلال تحذيراً لسكان غزة من أن مناطق عديدة في القطاع لا تزال “محفوفة بالمخاطر”، وشدد أفيخاي أدرعي، الناطق باسم هذا الجيش، في بيان باللغة العربية نُشر على منصة إكس: “الاقتراب من مناطق بيت حانون وبيت لاهيا والشجاعية وغيرها من مناطق انتشار قواتنا، ينطوي على مخاطر جسيمة”.
وأضاف: “في جنوب قطاع غزة أيضاً، يعد الاقتراب من محيط معبر رفح وممر فيلادلفيا وكل مناطق تمركز قواتنا في خان يونس، مجازفة محفوفة بالمخاطر”.
في ظل هذه الظروف المتقلبة، حذر مراقبون وناشطون من أنه إذا انهار وقف إطلاق النار سريعاً أو تأخرت المساعدات عن الوصول في أوانها، فإن الأوضاع الإنسانية في غزة ستنزلق مجدداً نحو هاوية الكارثة.
البحث عن الشهداء… استخراج الجثامين من تحت الأنقاض
أفادت مصادر طبية في غزة بأنه منذ فجر الجمعة وحتى ساعة إعداد التقرير، تم انتشال جثامين مئة وثلاثين شهيداً من مختلف أرجاء قطاع غزة، ثلاثة وتسعون منهم في مدينة غزة وحدها.
وذكر مجمع ناصر الطبي أنه تم العثور على رفات ثلاثين شهيداً من مناطق متفرقة في خان يونس، جنوب القطاع، وأفاد مصدر في مستشفى شهداء الأقصى باكتشاف جثامين سبعة شهداء من منطقة نتساريم وسط غزة.
هواجس تؤرق السكان
تنص إحدى مواد الاتفاق على بقاء قوات الاحتلال في بعض المناطق إلى حين التنفيذ الكامل لالتزامات الطرفين، وهذا يعني أن غزة لم تتحرر بشكل تام بعد.
تمثّل قضية إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين وتبادل المعتقلين الفلسطينيين خلال الساعات الاثنتين والسبعين المقبلة، نقطةً محوريةً في مسار تنفيذ الاتفاق. وإذا تعثر هذا الشق، فإن الثقة في الاتفاق برمته ستتداعى سريعاً.
كما أن قضايا جوهرية مثل عمليات إزالة الأنقاض والشروع في إعادة الإعمار، والسيادة السياسية والإدارة الحكومية المستقبلية، وآليات الرقابة الدولية على المعابر والحدود، لم تتبلور بعد بصورة واضحة.
ومع ذلك، تبقى حقيقة ناصعة كضياء الشمس في رابعة النهار: تختزن صخور هذه الأرض المقدسة وذرات ترابها ملاحم الصمود وقصص الإباء. غزة، طائر الفينيق الذي لا يموت، تنبعث مجدداً من رماد المعارك، وبكفوف خاوية لكن بإرادة تضارع الجبال رسوخاً، تستهل فصلاً جديداً يشع بأنوار الأمل.