الوقت- لم يعد الاحتلال الإسرائيلي يحظى بالمكانة التي تمتع بها لعقود طويلة، حين كان يُقدَّم للعالم باعتباره كياناً مقبولاً في الحسابات الغربية وحليفًا استراتيجيًا للقوى الكبرى. اليوم، يجد الكيان نفسه في عزلة متنامية، بعدما تحولت صورته من نموذج للحداثة إلى رمز للبطش والعنف. تتزايد الانتقادات الدولية لسياسته في الأراضي الفلسطينية، وتتسع الدعوات إلى محاسبته على جرائمه بحق المدنيين.
هذه العزلة ليست مجرد موقف عابر أو رد فعل على حرب أو عدوان، بل هي نتيجة تراكمية لعقود من سياسات الاحتلال التي تجاهلت القانون الدولي واستهانت بدماء الفلسطينيين. لقد فقد الكيان تدريجياً غطاءه الأخلاقي، وبات يُنظر إليه بوصفه مشروعاً استيطانياً يعيش على القهر والإقصاء، لا دولة تسعى إلى السلام والاستقرار.
الانهيار الدبلوماسي: تحوّل الحلفاء إلى عبء
يواجه الكيان الإسرائيلي اليوم تراجعاً واضحاً في حضوره الدبلوماسي العالمي. فحتى بعض الدول التي كانت تعتبره شريكاً أمنياً بدأت تتخذ مواقف أكثر تحفظاً، مدفوعة بالضغط الشعبي وبالتحولات في الرأي العام العالمي. مشاهد الدمار في غزة، وصور الأطفال الذين يسقطون ضحايا للغارات، خلقت وعياً جديداً في المجتمعات الغربية والعربية على حد سواء.
هذا الوعي جعل من الصعب على الحكومات تبرير دعمها غير المشروط للاحتلال. فقد تحوّل الدعم لإسرائيل إلى قضية مكلفة سياسياً وأخلاقياً. كما أن بعض القوى الإقليمية بدأت تُعيد تقييم علاقاتها، بعدما اكتشفت أن التطبيع لم يجلب استقراراً أو ازدهاراً، بل زاد من الغضب الشعبي وأضعف مكانتها الداخلية.
أصبح الكيان في مواجهة مباشرة مع أزمة شرعية عالمية، حيث تتآكل مكانته في المؤسسات الدولية، وتتعالى الأصوات المطالبة بفرض عقوبات عليه، في مشهد يعكس تحوّلاً جذرياً في ميزان العلاقات الدولية تجاهه.
الانقسام الداخلي: كيان مضطرب من الداخل قبل الخارج
العزلة الخارجية ليست سوى انعكاس لخللٍ داخلي متصاعد. فالمجتمع الإسرائيلي يعيش حالة انقسام حاد غير مسبوق، بين التيارات الدينية المتطرفة والعلمانية، وبين أنصار الدولة الحديثة ودعاة الدولة التوراتية. الاحتجاجات التي شهدتها شوارع تل أبيب في العامين الأخيرين ضد الحكومة كشفت هشاشة البنية السياسية للكيان، وأظهرت أن الأزمة لم تعد فقط بينه وبين الفلسطينيين، بل بين مكوناته نفسها.
الصراع على هوية الكيان أصبح جوهرياً: هل هو دولة قومية لليهود أم كيان ديمقراطي يتسع للجميع؟ هذا السؤال يقسم المجتمع الإسرائيلي عمودياً، ويهدد بنيته المستقبلية. فحين يفقد الشعب ثقته بمؤسساته، ويتحول الجيش إلى طرف في الجدل السياسي، فإن التماسك الداخلي يصبح وهماً أكثر منه حقيقة.
هذا الانقسام ينعكس أيضاً على الأداء العسكري والأمني، حيث تتزايد الانتقادات داخل المؤسسة الأمنية ذاتها لسياسات الحكومة المتطرفة، التي يُنظر إليها على أنها تقود الكيان نحو صدام دائم لا نهاية له.
الأزمة الأخلاقية: من الضحية إلى الجلاد
لطالما حاول الاحتلال ترويج رواية أنه يعيش محاطاً بالأعداء ويكافح من أجل البقاء، لكنه اليوم بات يُنظر إليه كقوة احتلال تقتل المدنيين وتحاصر الشعوب. الفارق بين صورة الضحية وواقع الجلاد أصبح صارخاً.
الجرائم اليومية في غزة والضفة، من القصف العشوائي إلى هدم المنازل والاعتقالات الجماعية، جعلت الكيان في مواجهة مباشرة مع العالم. مؤسسات حقوق الإنسان تتحدث عن انتهاكات ممنهجة، والمجتمعات الأكاديمية والثقافية في الغرب باتت أكثر جرأة في مقاطعته.
هذه التحولات تعكس انهيار الرواية الأخلاقية التي بنت عليها إسرائيل شرعيتها لعقود. فحين يفقد الكيان قدرته على إقناع العالم بعدالة وجوده، يصبح كل انتصار عسكري بلا قيمة سياسية، وكل تفوق أمني بلا معنى إنساني.
تراجع الردع: سلاح القوة يتحول إلى لعنة
القوة العسكرية كانت دائماً الورقة التي يلوّح بها الاحتلال لإثبات تفوقه وردع خصومه. لكنه اليوم يدفع ثمن الاعتماد المفرط على القوة. فكل جولة عدوان جديدة تزيد من عزلته وتؤكد فشله في تحقيق الأمن الذي يزعم أنه يسعى إليه.
لقد تحولت القوة من وسيلة للردع إلى عبء استراتيجي. فكلما استخدمها الاحتلال ضد شعب أعزل، خسر مزيداً من التأييد العالمي، وولد أجيالاً جديدة من المقاومة في المقابل. الردع الذي كان يوماً مصدر فخر أصبح اليوم عنوان عجز، لأن العالم بات يرى جيشاً يهاجم مدنيين لا جيشاً يحمي شعبه.
ومع تصاعد الهجمات وردود الفعل الدولية، يتضح أن الكيان لم يعد قادراً على التحكم في صورته أو في مسار الأحداث كما في الماضي.
كيان يواجه المجهول
تعيش إسرائيل اليوم لحظة مفصلية في تاريخها. فالعزلة التي كانت يوماً تحذيراً أصبحت واقعاً، والاحتضار الذي كان يُتداول كتعبير مجازي بدأ يتحول إلى حقيقة سياسية وأخلاقية.
الكيان الذي بُني على فكرة البقاء بالقوة يكتشف أن القوة وحدها لا تصنع الاستقرار، وأن احتلال شعبٍ بأكمله لا يمكن أن يبرر إلى الأبد. إن فقدان الشرعية الدولية، والانقسام الداخلي، وتراجع الثقة بالحلفاء، كلها مؤشرات على مسار انحداري يصعب عكسه دون مراجعة جذرية.
قد لا ينهار الكيان بين ليلة وضحاها، لكنه يسير بخطى ثابتة نحو عزلة تزداد عمقاً يوماً بعد يوم. وحين تفقد دولة ما قدرتها على الإقناع، وتستبدل السياسة بالقوة، فإنها تبدأ فعلياً مرحلة الاحتضار، مهما امتلكت من ترسانة عسكرية أو دعم خارجي.
هكذا يبدو المشهد اليوم: كيان يواجه المجهول، يحاول التمسك بمكانة لم تعد له، في عالم بدأ يطوي صفحة الاحتلال ويفتح صفحة جديدة للحرية والعدالة.