الوقت- لقد دأب الكيان الصهيوني على مدى عقود متطاولة على نسج صورة زائفة لنفسه، يتباهى فيها بتفوقه العسكري الساحق، وإحاطته الاستخباراتية الشاملة، وهيمنته المطلقة التي لا تُضاهى ولا تُنازع. بيد أن عملية طوفان الأقصى قوّضت هذا البنيان الوهمي وأطاحت بأركانه في صبيحة واحدة. فقد حطّم هذا الطوفان الجارف قوة العدو تحطيماً لا رجعة فيه، وألبس الكيان الإسرائيلي ثوب الذل والهوان أمام مرأى العالم ومسمعه.
كشفت هذه الملحمة الباهرة ستار الخداع عما كان مستوراً؛ من تدمير للصروح الطبية، ودور العلم، وبيوت العبادة؛ ومن إزهاق لأرواح البراءة من أطفال ونساء؛ ومن نفاق وازدواجية أولئك المتشدقين بشعارات حقوق الإنسان. فانكشفت كل هذه الجرائم النكراء للعالم بأسره. وقد ألحقت قدرة المقاومة على اختراق حصون العدو، والاستيلاء على معاقله العسكرية، وأسر جنوده، ضربةً قاصمةً في صميم كيانه، وجرحاً غائراً في نفسيته واستراتيجيته، لم يشهد له مثيلاً منذ عام 1948.
في الذكرى السنوية الثانية لملحمة طوفان الأقصى، جری حوار مع السيد “ناصر أبو شريف” ممثل حركة الجهاد الإسلامي الفلسطيني في إيران، وفيما يلي ما جاء فيه:
بعد انصرام عامين على ملحمة طوفان الأقصى، كيف تقرأون هذه الواقعة الفارقة في سجل المقاومة الفلسطينية الناصع؟
تجلّت عملية طوفان الأقصى كنقطة تحول محورية في مسيرة النضال الفلسطيني، إذ حطمت أسطورة “التفوق المطلق” التي طالما تغنى بها الكيان الصهيوني، وأعادت القضية الفلسطينية إلى صدارة اهتمامات الرأي العام العالمي بعد أن كادت تندثر. ومن هنا، فقد تبدلت قواعد اللعبة وأضحت تقوم على “الردع المتبادل”؛ فالعدو وإن كان يمتلك قدرة إيذاء، إلا أنه بات عاجزاً عن حسم المعركة، وأصبحت فاتورة عدوانه باهظة الثمن داخلياً وخارجياً، بل وتضاعفت أضعافاً مضاعفةً.
في ظل المبادرات الشعبية العفوية التي اجتاحت العالم لنصرة الشعب الفلسطيني، كإبحار سفن “مادلين” و"حنظلة" و"الصمود" صوب شواطئ غزة المحاصرة، ما الرسالة التي بعثتها عملية طوفان الأقصى للأمة الإسلامية والشعوب الحرة في أرجاء المعمورة؟
تحمل هذه المبادرات الشعبية العفوية التي هبّت من أقاصي الدنيا رسالتين جليلتين؛ الأولى موجهة إلى أبناء فلسطين المرابطين الذين يذودون عن حياض القدس وثرى فلسطين الطهور. والثانية تخاطب ضمير العالم، مفادها أن الشعوب الحرة قد ضاقت ذرعاً بظلم الکيان المحتل وجبروته ضد الشعب الفلسطيني، وأنها عازمة على تحطيم أغلال الحصار المضروب على قطاع غزة الصامد.
ما المكانة التي يتبوؤها محور المقاومة في الوقت الراهن، وما الأولويات التي يضعها نصب عينيه في حقبة ما بعد الحرب؟
يقف محور المقاومة اليوم على قمة شامخة من التنسيق المحكم والردع المتماسك المترابط الأطراف. وتتصدر أجندته تثبيت وقف إطلاق النار وحماية المدنيين العزل، ورصّ صفوف المسار السياسي الفلسطيني، وتطوير منظومة الردع الذكي، وتسريع وتيرة الملاحقة القانونية والدبلوماسية للمجرمين الصهاينة على محافل العدالة الدولية.
ما الأثر الذي خلّفه طوفان الأقصى على نسيج المجتمع الصهيوني ومستقبل حكومة نتنياهو المتهاوية؟
عرّى طوفان الأقصى الصدوع الهيكلية العميقة في بنية الكيان، كأزمة انعدام الثقة المستفحلة بالمؤسسات الأمنية الإسرائيلية، ناهيك عن النزيف الاقتصادي المستمر الذي ينخر في جسد هذا الكيان المصطنع. وحتى لو تشبثت حكومة نتنياهو المتهالكة بكرسي السلطة لفترة وجيزة، فإن أفقها الاستراتيجي قد ضاق وأظلم، وباتت تتكبد خسائر فادحة على كل صعيد.
كيف تسربت روح المقاومة وثقافتها إلى شرايين الجيل الجديد من أبناء فلسطين؟
استحالت “المقاومة العملية” إلى نهج حياة وعرف سائد؛ فتجلى ذلك في مشاهد التعليم تحت سياط القصف، والتطوع لإغاثة المنكوبين، وابتكار سبل العيش والبقاء في أحلك الظروف، وإنتاج المحتوى الإعلامي بلغات شتى لمخاطبة ضمير العالم. لقد تحولت المقاومة من مجرد شعار يتردد على الألسنة، إلى “أسلوب حياة” متجذر في وجدان هذا الجيل الفتي.
هل مهّدت ملحمة طوفان الأقصى السبيل لتشكيل جبهة عالمية تتصدى لسياسات تل أبيب الاستعمارية الغاشمة؟
بلا ريب؛ فقد أثمرت هذه الملحمة الخالدة ليس مجرد جبهة عسكرية فحسب، بل نسجت شبكةً متشعبةً متعددة المستويات من الضغط الأخلاقي والقانوني تحاصر الكيان الصهيوني من كل جانب؛ وتجلت ثمار هذه الشبكة في توالي الاعترافات الدولية بدولة فلسطين، وفرض قيود صارمة على تدفق السلاح إلى "إسرائيل"، وتكاثر القضايا المرفوعة أمام المحاكم الدولية، وتصاعد موجة المقاطعة الشاملة للكيان الصهيوني ومنتجاته.
ما دلالات ردود الفعل العالمية، ولا سيما مواقف الدول الغربية، على مستقبل النظام العالمي برمته؟
منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، اتسعت الهوة بين الحكومات الغربية وشعوبها اتساعاً لم يسبق له مثيل. والرسالة الجلية هي أن “القانون الدولي الإنساني” يتحول من حبر على ورق إلى أداة ضغط باهظة التكلفة، وأن احتكار الرواية الغربية للأحداث آخذ في التلاشي والاضمحلال؛ فنحن نشهد ولادة “تعددية أخلاقية-قانونية” تجعل فاتورة الاحتلال أثقل وأفدح.
ما الأثر الذي تركته هذه الملحمة الفذة على تماسك محور المقاومة وترابط حلقاته في المنطقة؟
لقد ارتقى مستوى التنسيق الميداني بين جبهات المقاومة إلى درجة لم تبلغها من قبل، مع ضبط محكم لإيقاع المواجهات تفادياً لانزلاق المنطقة إلى أتون حرب شاملة. في الحقيقة، عزّز محور المقاومة لُحمته ونسيجه الوظيفي بصورة أكثر وضوحاً وفاعليةً، وضاعف من قدرته على إنهاك الكيان الصهيوني وإرهاقه بتكاليف باهظة متواصلة.
ما التحول الجذري الذي أحدثه طوفان الأقصى في معادلة الردع الاستراتيجي؟
حوّل طوفان الأقصى معادلة الردع الإسرائيلي أحادي الجانب إلى “توازن ردع متبادل” وإن كان نسبياً؛ فبات كل عدوان واسع النطاق يقابَل بضربات موجعة في عمق الكيان، وعزلة سياسية متفاقمة، دون أن يغيب عن الأذهان قدرة العدو على إلحاق الأذى والخراب.