الوقت-في الأسابيع الأخيرة، تصاعد الجدل داخل "إسرائيل" وحولها بشأن خطة حكومة الاحتلال للسيطرة الكاملة على مدينة غزة، ففي الوقت الذي يُصرّ فيه بنيامين نتنياهو على أن الاحتلال هو السبيل الوحيد لما يسميه "تحقيق الأمن" وتحرير الرهائن، تحذّر أصوات إسرائيلية ودولية من أن هذه الخطوة ليست سوى مغامرة متهورة قد تتحول إلى كارثة إنسانية واقتصادية وسياسية، فبينما يحاول نتنياهو الظهور بمظهر القائد الحازم، تكشف الحقائق أن هذا الإصرار لا يعكس إلا عجز الاحتلال عن تحقيق أهدافه وفشله في كسر إرادة الفلسطينيين.
في الثامن من أغسطس 2025 أعلن مجلس الأمن القومي الإسرائيلي موافقته على خطة لاحتلال مدينة غزة بالكامل، وقدّم نتنياهو القرار على أنه "مرحلة حاسمة" في الحرب ضد المقاومة الفلسطينية، لكنه تجاهل عمدًا التحذيرات الداخلية والخارجية، التي أكدت أن أي احتلال بري شامل سيغرق جيش الاحتلال في مستنقع جديد، وقبل ذلك بثلاثة أيام، اجتمع نتنياهو مع قادة أجهزته الأمنية الذين حذّر بعضهم من أن الخطة ستؤدي إلى خسائر بشرية جسيمة بين جنوده، وإلى تعقيد مسار المفاوضات بشأن الرهائن.
لم تقتصر التحذيرات على الجانب الأمني، بل امتدت إلى الاقتصاد الذي يترنح بالفعل تحت وطأة الحرب. فقد وجه ثمانون خبيرًا اقتصاديًا رسالة إلى حكومة الاحتلال في التاسع من أغسطس 2025، أكدوا فيها أن تكلفة السيطرة على غزة ستتجاوز ستين مليار شيكل، أي نحو ستة عشر مليار دولار، مع توقعات بانهيار الاستثمارات الدولية وهجرة الكفاءات، هذه الأعباء المالية الهائلة لن تضرب سوى المواطن الإسرائيلي العادي الذي سيدفع ثمن مغامرات نتنياهو السياسية.
في المقابل، حذرت الأمم المتحدة من أن الاحتلال سيؤدي إلى "كارثة إنسانية" غير مسبوقة في غزة، مع نزوح جماعي وانعدام للخدمات الأساسية، إن غزة، المدينة المحاصرة منذ أكثر من 17 عامًا، تعاني أصلاً من نقص حاد في الغذاء والدواء والمياه، وأي اجتياح شامل سيحوّل الوضع إلى مأساة تفوق الوصف، ما يشكّل وصمة عار جديدة على جبين الاحتلال أمام المجتمع الدولي، كما أشارت مراكز أبحاث عالمية إلى أن مثل هذه الخطوة ستزيد من عزلة الكيان، وقد تفتح الباب أمام عقوبات وضغوط سياسية غير مسبوقة.
من الناحية العسكرية، يعرف قادة الاحتلال جيدًا أن غزة مدينة حضرية مكتظة بالسكان، محصّنة بشبكة أنفاق معقدة، أي اجتياح بري لن يكون نزهة، بل سيتحوّل إلى فخ دموي للجنود الإسرائيليين، وخصوصًا مع وجود رهائن قد يتعرضون للخطر في أي لحظة.
التجارب السابقة، مثل غزو لبنان عام 1982، أثبتت أن الاحتلال لا يجلب الأمن، بل يقود إلى استنزاف طويل الأمد وهزائم سياسية وعسكرية متكررة. واليوم، يخشى الكثيرون أن يتكرر السيناريو نفسه في غزة.
اقتصاديًا، فإن الاحتلال سيشكل عبئًا غير مسبوق على ميزانية الدولة العبرية، آلاف الجنود سيتعين عليهم البقاء في المدينة المحتلة لفترة طويلة، مع تحمل نفقات الصحة والتعليم والبنية التحتية، هذه الأعباء المالية ستفوق قدرة الاقتصاد الإسرائيلي المتباطئ، بينما يتراجع الاستثمار الأجنبي وتتصاعد موجة هروب رؤوس الأموال والعقول الشابة من البلاد، وبذلك، يصبح الاحتلال مشروعًا لتدمير الداخل الإسرائيلي من الداخل قبل أن يحقق أي مكاسب سياسية أو عسكرية.
إن الجانب الإنساني والقانوني يفضح أكثر فأكثر نوايا الاحتلال، فغزة التي تقف على حافة الانهيار، ستشهد مع أي اجتياح جديد نزوحًا لعشرات الآلاف، وانعدامًا للغذاء والماء، وانهيارًا للرعاية الصحية، هذا الوضع يضع "إسرائيل" في مواجهة مباشرة مع القانون الدولي الإنساني، الذي يلزم أي قوة محتلة بضمان حقوق المدنيين، غير أن سجل الاحتلال الأسود في جرائمه السابقة يجعل الالتزام بالقانون مجرد وهم، ويعزز احتمالات ملاحقته قضائيًا دوليًا.
سياسيًا ودبلوماسيًا، يتفاقم الانقسام داخل كيان الاحتلال نفسه. فبينما يتمسك نتنياهو بخطاب القوة والمزايدات، تحذر المؤسسة الأمنية والاقتصادية من أن الاحتلال سيجلب عواقب وخيمة. هذا الانقسام الداخلي يضعف جبهة الاحتلال، ويكشف عمق أزمته السياسية، أما خارجيًا، فإن المضي في خطة الاحتلال سيجعل "إسرائيل" أكثر عزلة، ويدفع الدول الغربية والعربية إلى إعادة النظر في علاقاتها معها، وربما فرض عقوبات اقتصادية أو عسكرية تضاعف من أزماتها.
إن السيناريوهات المستقبلية تظهر أن الاحتلال الكامل ليس سوى خيار يائس من حكومة مأزومة، قد يحقق أهدافًا آنية كتوجيه ضربة لحماس أو محاولة تحرير رهائن، لكنه سيزرع بذور مقاومة أشد قوة، ويقود إلى صراع طويل الأمد تستحيل السيطرة عليه، البدائل الواقعية تكمن في حلول سياسية ودبلوماسية، لكن نتنياهو يبدو مصممًا على تجاهلها لحسابات شخصية وحزبية ضيقة.
في المحصلة، فإن احتلال غزة بالكامل ليس مجرد عملية عسكرية، بل مقامرة خاسرة ستزيد عزلة الكيان وتفضح عجزه، التكلفة الإنسانية والاقتصادية والسياسية باهظة، والنتيجة لن تكون إلا مزيدًا من الدماء والمآسي، إن إصرار نتنياهو على هذا المسار لا يعكس قوة، بل يكشف عن ضعف نظام غارق في الأزمات، ويبقى الأمل أن تصمد غزة وأهلها كما فعلوا دائمًا، لتُفشل هذه المخططات، وتُثبت أن إرادة الشعوب أقوى من كل احتلال.