الوقت- منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023، يتنامى النقاش السياسي والأمني حول نوايا الاحتلال الإسرائيلي بشأن مستقبل القطاع. فبينما تشير تسريبات وخطط معلنة من بعض المسؤولين الإسرائيليين إلى رغبة في فرض سيطرة مباشرة على غزة، سواء عبر إعادة الاحتلال العسكري المباشر أو من خلال فرض إدارة أمنية طويلة الأمد، تخرج تحذيرات متكررة من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وعدد من العواصم الغربية والعربية، محذرة من أن خطوة كهذه ستفتح الباب أمام كوارث إنسانية غير مسبوقة، وتفاقم من مأساة الفلسطينيين الذين يرزحون أصلاً تحت وطأة حصار وتجويع وإبادة جماعية ممنهجة.
خطط الاحتلال ومخاطر السيطرة الكاملة
التصريحات الإسرائيلية المتكررة منذ أواخر 2023 حول "اليوم التالي" في غزة تعكس تردداً وتناقضاً داخلياً، لكنها تكشف أيضاً عن تيار سياسي وعسكري قوي يدفع باتجاه السيطرة الكاملة. فقد تحدث بعض وزراء حكومة نتنياهو صراحة عن "ضرورة إعادة الاستيطان" في غزة، بينما أشار آخرون إلى خيار فرض إدارة أمنية إسرائيلية طويلة الأمد، بذريعة "منع عودة حماس" أو أي قوة مقاومة فلسطينية.
غير أن مثل هذه السيناريوهات، وفق خبراء القانون الدولي والسياسة، تمثل عودة صريحة للاحتلال المباشر الذي انتهى رسمياً عام 2005 بعد الانسحاب الإسرائيلي من القطاع، وبالتالي، فإن إعادة فرض السيطرة العسكرية تعني عملياً تكريس نظام احتلال كامل بكل ما يحمله من التزامات قانونية، ولا سيما أن "إسرائيل" لا تزال تُعتبر قوة احتلال بموجب القانون الدولي لأنها تتحكم في المعابر والحدود والأجواء والمياه الإقليمية لقطاع غزة.
التحذيرات الأممية: نحو كارثة إنسانية مضاعفة
الأمم المتحدة، عبر أمينها العام أنطونيو غوتيريش ومبعوثيها الخاصين، أكدت في أكثر من مناسبة أن أي خطوة إسرائيلية تهدف إلى إعادة احتلال غزة أو توسيع السيطرة العسكرية عليها ستقود إلى "كارثة إنسانية لا مثيل لها"، فالمجتمع الدولي يدرك أن سكان غزة البالغ عددهم أكثر من 2.3 مليون نسمة يعيشون بالفعل في ظروف غير إنسانية نتيجة الحصار والقصف المستمر، حيث يعاني نحو 80% منهم من انعدام الأمن الغذائي، فيما تقارير منظمة الصحة العالمية تشير إلى انتشار سوء التغذية الحاد بين الأطفال والرضع.
الأمم المتحدة ربطت بين هذه الخطط وبين خطر "التطهير العرقي"، إذ إن دفع السكان نحو الهجرة أو تهجيرهم قسرياً عبر تعميق الأزمة الإنسانية يُعتبر انتهاكاً صارخاً لمعاهدة جنيف الرابعة، وهو ما قد يرقى إلى جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية.
المواقف الأوروبية: تحذيرات من انفجار إقليمي
الدول الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا وألمانيا وإسبانيا، حذرت في الأشهر الأخيرة من أن أي محاولة إسرائيلية للسيطرة على غزة بالقوة ستقود إلى "تعميق جذور الصراع"، وتضع المنطقة على حافة انفجار إقليمي جديد، الاتحاد الأوروبي أصدر بيانات متكررة أكد فيها أن مستقبل غزة يجب أن يقرره الفلسطينيون أنفسهم ضمن إطار حل سياسي أوسع يضمن إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
كما عبّر مسؤولون أوروبيون عن خشيتهم من أن تؤدي سياسات الاحتلال هذه إلى موجات تهجير جديدة، قد تدفع بعشرات الآلاف من الفلسطينيين نحو سيناء أو دول الجوار، وهو ما يثير هواجس أمنية وإنسانية هائلة، فمصر على سبيل المثال أعلنت مراراً رفضها أي مخططات تهجير من غزة إلى أراضيها، معتبرة ذلك خطاً أحمر يمس السيادة المصرية ويهدد استقرار المنطقة.
الأبعاد القانونية: انتهاك صارخ للقانون الدولي
من الناحية القانونية، يمثل قرار السيطرة على غزة خرقاً واضحاً لعدد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، فميثاق الأمم المتحدة يحظر الاحتلال بالقوة ويؤكد على حق الشعوب في تقرير مصيرها، كذلك، تنص اتفاقيات جنيف بوضوح على حماية المدنيين تحت الاحتلال، ومنع العقوبات الجماعية، وضرورة تأمين الغذاء والدواء لهم.
لكن "إسرائيل"، كما تشير تقارير منظمات حقوقية مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية"، تمارس سياسات ممنهجة مناقضة لهذه القوانين، من خلال الحصار والتجويع وقطع المساعدات واستهداف البنية التحتية المدنية، أي خطوة جديدة للسيطرة العسكرية المباشرة على غزة ستعزز الأدلة القانونية التي قد تستخدم ضد "إسرائيل" أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، وخصوصاً في ظل التحقيقات الجارية حول ارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية.
تداعيات إنسانية: المجاعة والتطهير العرقي
الجانب الأكثر خطورة في حال قررت "إسرائيل" المضي في فرض سيطرتها على غزة هو التداعيات الإنسانية، فمعظم سكان القطاع يعيشون على المساعدات الإنسانية التي بالكاد تصل، ومنع دخول المواد الغذائية والطبية والوقود، إلى جانب القصف المتاصل، جعل القطاع أشبه بمكان غير صالح للحياة.
التقديرات الأممية تشير إلى أن مئات الآلاف من الأطفال مهددون بالموت جوعاً إذا استمر الوضع الحالي، أما في حال توسعت السيطرة الإسرائيلية بشكل مباشر، فمن المرجح أن تتضاعف الأزمة مع تقليص دور المؤسسات الإغاثية الدولية أو طردها من القطاع، وهذا يعني عملياً أن "إسرائيل" قد تستخدم سياسة التجويع كسلاح لإخضاع الفلسطينيين، ما يرقى إلى مستوى جريمة إبادة جماعية حسب تعريف القانون الدولي.
تداعيات سياسية وأمنية على المنطقة
السيطرة على غزة لا تعني فقط مأساة إنسانية، بل قد تدفع المنطقة بأكملها نحو دائرة جديدة من العنف وعدم الاستقرار. فالمقاومة الفلسطينية لن تختفي، بل على العكس، قد تجد في استمرار الاحتلال دافعاً لمزيد من العمليات المسلحة، ما يعني تصعيداً طويلاً الأمد لا يقتصر على غزة بل يمتد إلى الضفة الغربية وربما جبهات أخرى كجنوب لبنان.
إضافة إلى ذلك، فإن فرض الاحتلال على غزة سيضعف فرص أي عملية سياسية مستقبلية، ويقضي عملياً على فكرة "حل الدولتين" التي لا يزال المجتمع الدولي يتبناها، وهذا يعني أن "إسرائيل" ستتحول في نظر كثير من الدول إلى قوة استعمارية تمارس الفصل العنصري والتطهير العرقي بشكل علني، ما قد يقود إلى عزلة دولية متزايدة.
ردود الفعل المحتملة
من المتوقع أن يواجه أي قرار بالسيطرة المباشرة على غزة رفضاً دولياً واسعاً، ربما أكبر من أي وقت مضى، وخاصة بعد أن كشفت التقارير الاستقصائية والانتهاكات الموثقة بالصوت والصورة عن حجم الجرائم المرتكبة في القطاع، الاتحاد الأوروبي قد يذهب إلى خطوات عملية مثل فرض عقوبات أو تقييد التعاون العسكري مع "إسرائيل"، فيما قد تدفع بعض الدول إلى الاعتراف بدولة فلسطين بشكل متسارع.
من جانب آخر، قد يفتح هذا السيناريو الباب أمام محاكمات دولية جديدة، حيث ستُضاف جرائم الاحتلال الجديدة إلى الملفات المفتوحة أمام محكمة لاهاي، وقد تستغل قوى دولية مثل روسيا والصين هذا الموقف لتعزيز خطابها المناهض للغرب، عبر إظهار ازدواجية المعايير في التعامل مع القوانين الدولية.
ختام القول
إن مغبة قرار الاحتلال الإسرائيلي بالسيطرة على غزة تتجاوز الحسابات العسكرية الضيقة، وتمثل تهديداً شاملاً على المستويات الإنسانية والقانونية والسياسية، التحذيرات الأممية والأوروبية ليست مجرد بيانات دبلوماسية، بل هي إنذار حقيقي من أن العالم قد يواجه كارثة إنسانية وسياسية غير مسبوقة إذا أقدمت "إسرائيل" على هذا المسار.
غزة اليوم تقف على مفترق طرق تاريخي: إما أن يتجه العالم نحو فرض حل سياسي عادل يضمن حقوق الفلسطينيين، أو أن يترك المجال مفتوحاً أمام "إسرائيل" لفرض سياسات القهر والتجويع والتهجير، بما يحول المنطقة إلى بؤرة دائمة من العنف والدمار، والوقت ينفد، إذ إن كل يوم يمر يعني مزيداً من الأرواح التي تُزهق، ومزيداً من الأطفال الذين يُحرمون من الغذاء والدواء، ومزيداً من الحقوق التي تُسحق تحت جنازير الاحتلال.