الوقت - عقب طرح فيلم “سوبرمان” الجديد لصانع السينما “جيمز غان” في صالات العرض حول العالم، اضطرمت أفئدة رواد منصات التواصل بنقاشات محتدمة حول رسائله السياسية المثيرة للجدل. قارن جمهور غفير من المشاهدين بين عناصر الفيلم الدرامية وبين هجوم "إسرائيل" على الأراضي المحتلة وغزة، متسائلين في دهشة بالغة كيف لشركة عملاقة بحجم وارنر براذرز أن تتبنى موقفاً كهذا في إنتاج سينمائي ضخم.
تأتي هذه التفاعلات المتلاحقة بينما طالما تربع “سوبرمان” على عرش الرموز الخالدة لـ"العدالة والتعاطف الأمريكي"، لكنه في هذا التجسيد الجديد استحال إلى مهاجر ينحاز بقلبه وقوته لشعبٍ مقهور يرزح تحت نير دولة جبارة تحظى بمباركة الولايات المتحدة (في إيماءة جلية إلى "إسرائيل")، مما أذهل قطاعاً واسعاً من المشاهدين.
أثار هذا التحول الجذري في شخصية سوبرمان وتناوله لقضايا سياسية شائكة، سجالات فكرية عميقة في الفضاء العام، مبرهناً مجدداً على سلطان السينما في شرح القضايا الاجتماعية والسياسية ونقدها بأدوات الفن السابع.
صدى الفيلم في ساحات التواصل الاجتماعي
هرع جمع غفير من المشاهدين وحتى أقطاب السياسة من شتى المشارب الفكرية إلى إبداء آرائهم عبر منصات التواصل، كل يسبر أغوار المغزى المستتر وراء نسيج الفيلم، خصوصاً فيما يتصل بصلته المحتملة بمأساة غزة المستعرة.
أفصح “حسن بايكر”، المؤثر اليساري ذائع الصيت على منصة “تيك توك” والمعروف في أروقة التواصل الاجتماعي، في شريط مصور نشره على يوتيوب قائلاً: “من الواضح تماماً أن مرمى الفيلم ومقصده هو إسرائيل وفلسطين”.
وفي الآن ذاته، کتب أحد مرتادي منصة إكس (تويتر سابقاً) في منشورٍ شاهده ما يربو على 4.5 مليون مشاهد: “لم تكن مزحةً حقاً حين قلتم إن فيلم سوبرمان يتخذ موقفاً مناهضاً لإسرائيل ومؤيداً للقضية الفلسطينية؛ إنهم لم يتكلفوا عناء إخفاء ذلك”.
يكاد ينعقد إجماع بين المتابعين على أن الفيلم يقف في خندق مناهض للكيان الإسرائيلي، إذ لم يسع صناعه لمواراة هذا التوجه. وصفه عددٌ من المحللين بأنه “منعطف ثقافي فارق”. ورصد كثيرون تماثلات صارخة بين دولتي بورافيا وجرهانبور الخياليتين في الفيلم وبين "إسرائيل" وفلسطين. کما عدّ بعض المشاهدين نسيج الفيلم “أجلى خطاب مؤيد للفلسطينيين” شهدوه في إنتاج استديو عملاق.
وأعرب آخرون عن تعلقهم بأمل أن يذكي الفيلم شعلة الوعي العام، ويوقظ مزيداً من الناس لإدراك الحقائق المرة. ابتهج فريق آخر لمجرد تشييد صرح سينمائي كهذا وعرضه على الشاشات الفضية، مقدّرين مقدرته على نقل هذا النهج والشعور. وذكّر كثيرون بأن في وسع كل منا أن يتقمص دور سوبرمان الحقيقي، بالوقوف شامخاً ودعم أطفال غزة المكلومين.
“سوبرمان” يتصدى لسياسات واشنطن الأحادية في الشرق الأوسط
أثار “سوبرمان” دهشة وابتهاج جماهير غفيرة من المشاهدين. يقدّم هذا العمل، بجرأة تفوق أي إنتاج سينمائي مؤثر آخر في السنوات الأخيرة، سرديةً رمزيةً تتصدى لسياسات واشنطن الأحادية في الشرق الأوسط، خاصةً دعمها غير المشروط لـ "إسرائيل"، حتى في خضم اتهامها بارتكاب جرائم حرب وحصد أرواح المدنيين الفلسطينيين يوماً بعد يوم.
يتجلى “سوبرمان” ليس مجرد فيلم عن بطل خارق، بل ضربة ثقافية جسورة للوضع الراهن، ضربة ستظل محل تداول ونقاش في أروقة الفكر والثقافة لزمن مديد.
حكاية رمزية للاحتلال والتمييز والمقاومة
تدور رحى القصة الرئيسة حول تدخل سوبرمان في أتون أزمة بين دولتين من نسج الخيال: بورافيا، دولة في أقاصي شرق أوروبا تُقدم في الفيلم ومصادر القصص المصورة الملهمة له كقوة غاشمة معتدية، وجارهنبور، دولة واهنة اقتصادياً واجتماعياً، يتشكل نسيجها السكاني في الغالب من ذوي البشرة الملونة والمسلمين. هذا التصوير، سواء في الجغرافيا أو في التركيبة الرمزية للضحية والمعتدي، يستعصي على التفسير كمحض صدفة، ويكاد يستحيل مشاهدته دون استحضار مأساة فلسطين، خاصةً في أتون حرب غزة المستعرة.
أيعدّ الانحياز للإنسانية دليلاً على “الصحوة”؟
من أكثر سهام النقد شيوعاً التي أطلقها معارضو الفيلم، استخدام عبارة “سوبرمان استيقظ” (Superman has gone woke). ترتبط هذه العبارة أكثر من أي شيء آخر برسالة الفيلم الصريحة والرمزية في نصرة حقوق الفلسطينيين، رسالة عدّها كثير من النقاد المحافظين مؤشراً على “تسييس مفرط” لسينما الأبطال الخارقين.
إن كل من يلمّ بشخصية سوبرمان يدرك بيُسر سبب موقفه في الفيلم، حيث يُنتقد لحيلولته دون إزهاق أرواح مدنيين أبرياء على يد ممثل "إسرائيل" في القصة (بورافيا) فيجيب: “كان الناس سيلاقون حتفهم!” تكشف هذه العبارة عن معضلة أخلاقية بالغة التعقيد تناولها الفيلم بعمق. فلطالما كان سوبرمان رمزاً للطيبة وحماية البشرية جمعاء، وسفيراً للقيم الإنسانية النبيلة.
استعارات محوطة بالحذر، تأثير سياسي قاطع
لا يرد في ثنايا فيلم “سوبرمان” ذكر صريح لـ "إسرائيل" أو فلسطين أو أي دولة أخرى — باستثناء الولايات المتحدة. لذا، تنفتح استعارة بورافيا على تأويلات متعددة أو حتى الإنكار حسب زاوية رؤية المشاهد. بيد أنه لتجاهل هذا المنحى، يتعين إغفال القرائن الجلية والأدلة الدامغة المبثوثة في نسيج الفيلم.
يؤكد جيمز غان، حائك قصة ومخرج فيلم “سوبرمان”، أن “بورافيا” والدولة المجاورة لها “جرهانبور”، ليستا إشارات مباشرة لـ "إسرائيل" وفلسطين. غير أن إيضاحه نفسه يكشف عن دلالات جديرة بالتأمل:
“عندما كنت أنسج خيوط هذا الفيلم، لم يكن الصراع في الشرق الأوسط قد اندلع بعد. لذا حاولت إضافة تفاصيل تنأى بالفيلم عن ذلك المحور، لكن في جوهرها هذه قصة عن هجوم من دولة بالغة القوة تحت نير دكتاتور على دولة تعاني من شوائب في تاريخها السياسي، لكن ليس في جعبتها أي دفاع ضد الدولة المهاجمة”. يقول غان إن هذه القصة “من محض الخيال”.
من عبارة “لم يكن الصراع في الشرق الأوسط قد اندلع بعد” وحدها، يمكن استخلاص أن غان لا يمتلك إدراكاً عميقاً لجذور قضية "إسرائيل" وفلسطين، رغم أن المقصود على الأرجح هو أن هجوم حماس على "إسرائيل" في 7 أكتوبر 2023 لم يكن قد وقع بعد (لأنه شرع في كتابة الفيلم أواخر 2022)، وأن الإبادة الجماعية الصارخة في غزة لم تكن قد اشتعلت فصولها بعد. لذا ربما يكون من المنطقي النظر إلى تصريحه في إطار فكرةٍ أكثر شمولاً.
نتنياهو متخفياً وراء قناع دكتاتور بورافيا الخيالي؟
على الأرجح لا يبتغي غان أن تتجلى استعارته عن "إسرائيل" وفلسطين في وضح النهار، رغم أنه من البيّن أنه لم يظفر بمراده في هذا المسعى. الأهمّ من ذلك أنه وداعموه في وارنر براذرز وديسكفري يعقدون آمالاً عريضةً على تحويل العمل إلى امتياز تجاري بقيمة مليارات الدولارات ينافس عالم مارفل السينمائي. يتوخى غان أن تعضد النقاشات السياسية الفيلم وإرثه، لا أن تطغى عليه، لذا يبدو الاحتفاظ بقدر من الغموض في تناول القضايا السياسية مسلكاً محموداً.
مع ذلك، تبقى حقيقة لا محيد عنها: الصورة المرسومة عن “دولة متجبرة مقابل شعب أعزل” تستدعي إلى الأذهان وضع "إسرائيل" والفلسطينيين، خاصةً في قطاع غزة المنكوب.
إن العلاقة الوثيقة بين دكتاتور بورافيا الذي ينطق بلكنة روسية أو شرق أوروبية ثقيلة ويبدو أقرب إلى الكاريكاتير، وهو مزيج من سمات بنيامين نتنياهو، والشركات الأمريكية الشبيهة بالمجموعات المقربة من نتنياهو، تستأهل وقفة تأمل. استعارة "إسرائيل-فلسطين" في الفيلم تتبدى للعيان بجلاء. قد تكون هذه واحدةً فقط من عدة ديناميات سياسية جالت في خاطر جيمز غان، لكن ما جسّده الفيلم يتأثر بوضوح بالواقع الإسرائيلي، وإن لم ينحصر فيه.
خط أحمر تخطته السينما: "إسرائيل" لم تعد من المحرمات في أمريكا
في غابر الأيام، حتى في حقبةٍ ليست بنائية، كان من ضرب المستحيل أن يصوّر فيلم أمريكي رائج "إسرائيل" — حتى على سبيل المجاز — كدولة معتدية وفاسدة؛ دولة يقبع جيرانها في دياجير الخوف والرعب ويضطرون للاستغاثة ببطلٍ خارق لإنقاذهم، وإلا تلاشت كل الآمال.
إن كاتباً يصوغ مثل هذا السيناريو، حتى لو كانت الإشارة إلى "إسرائيل" مبهمةً للغاية، كان سيجابه على الأرجح ممانعة الاستديو ويُنحى عمله جانباً. كان الوجل من ردود الفعل السلبية أو تزمت المشاهدين الذين ما زالوا متشبثين بالصورة الأسطورية لـ "إسرائيل"، سواء كضحية مظلومة أمام العرب والمسلمين المعتدين، أو كدولة صغيرة لكنها قويةً وحليف استراتيجي لأمريكا، سيحول دون ذلك. لكن هذه المرة، انقلبت الموازين.
فيلم مثل “سوبرمان” يرسّخ رؤيةً ثقافيةً أثارت ردود فعل هستيرية من أشخاص مثل بن شابيرو، المعلق المحافظ والمؤيد المتحمس لـ "إسرائيل"، وكذلك من المتعصبين لهذه الدولة.
تشابه ليكس لوثر مع ترامب وإيلون ماسك
ليكس لوثر هو الغريم الأزلي لسوبرمان. منذ ثمانينيات القرن المنصرم، نُحتت شخصية “ليكس لوثر” في سلسلة “سوبرمان” مباشرةً باستيحاء من دونالد ترامب.
أفصح “جون بيرن”، الكاتب الشهير لقصص سوبرمان المصورة، لصحيفة ديلي بيست في عام 2016: “كان دونالد ترامب نموذجنا لابتكار ليكس لوثر”. بعد سنوات، أصدرت دي سي كوميكس حتى سيرة غير رسمية لهذه الشخصية، كان غلافها مستوحى بجلاء من تصميم كتاب ترامب الذائع الصيت، فن الصفقة.
في الفيلم الجديد، يتقمص “ليكس لوثر” دور ملياردير مستبد وانتهازي، يمثل المورد الرئيسي للأسلحة الفتاكة لدولة بورافيا المعتدية (الدولة المعادلة لـ "إسرائيل")، ويستولي في المقابل على رقعة شاسعة من أراضي “جرهانبور”.
في عالم الواقع، يتطابق هذا التصوير بشكل مثير للقلق مع نهج الولايات المتحدة تجاه "إسرائيل" وفلسطين، حيث لا تقف أمريكا موقف المتواطئ فحسب، بل تضطلع بدور الشريك الفاعل في التمويل والتسليح والدعم السياسي للاحتلال وانتهاكات حقوق الإنسان التي تقترفها "إسرائيل".
والنقطة الأخرى الجديرة بالتأمل هي أن دونالد ترامب طرح في فبراير الماضي اقتراحاً بأن تستولي الولايات المتحدة على قطاع غزة، اقتراح قُدم عقب الطرد الكامل للفلسطينيين من المنطقة، وأثار موجةً من ردود الفعل الغاضبة.
ليكس لوثر في الفيلم رمز للرأسمالي القاسي، شخص بولوجه إلى دهاليز السلطة وعقود الأسلحة ونفوذه في برامج الفضاء وتحالفه مع أركان الحكومة، يرى الثروة والسيطرة غايته القصوى. إنه تجسيد واضح لملياديري العصر الراهن الذين يطوعون السياسة لخدمة مآربهم الشخصية، شخصيات على شاكلة ترامب أو إيلون ماسك.
إجمالاً، يتداخل نسيج الفيلم القصصي مع السياسة الخارجية الأمريكية الراهنة. مواجهة بورافيا تشبه الوقوف في وجه فلاديمير بوتين وهجومه العسكري على أوكرانيا، لكن تدخل سوبرمان ذوداً عن “جرهانبور”، يستحضر إلى الأذهان أكثر سياسات ترامب العدوانية في الشرق الأوسط، خاصةً حيال إيران.
هذه التشابهات ليست تامةً أو متطابقةً، لكنها تهدف بوضوح إلى عرض خيوط من نسيج الواقع السياسي المعاصر.
سوبرمان المعروف باسم كال-إل وكلارك كنت، من منظور السرد القصصي، كائن غريب، وافد بلغ الأرض دون تأشيرة أو وثائق قانونية.
من منظور فاشي ومن زاوية رؤية أمثال دونالد ترامب، هو بالضبط نموذج “مهاجر غير شرعي”. لكننا نعرف قصة هذا الغريب: كيف تشرّب القيم الإنسانية، وارتقى إلى مصاف الأبطال العالميين، وأخيراً اندمج في نسيج المجتمع البشري في هيئة صحفي متواضع في جريدة ديلي بلانيت.
في هذا الفيلم، تغدر أمريكا بسوبرمان وتسلّمه لعدوه اللدود، ليكس لوثر، الذي يزجّ به في غياهب السجن. يُقال لسوبرمان إنه مجرد من كل الحقوق، لأنه غريب — أي مهاجر.
وفي سياق الأحداث، تواصل أمريكا مدّ يد العون لبورافيا، وعندما يتدخل سوبرمان دون تفويض رسمي في عمليات الإبادة التي تنفذها هذه الدولة الغاشمة، يُجابه بوابل من الانتقادات. ومع انكشاف خيوط مؤامرة دنيئة، تقف الحكومة الأمريكية موقف المتفرج غير المكترث ولا تتحمل قط مسؤولية أفعالها. وفي نهاية المطاف، يبقى الأبطال الخارقون وحدهم من يهبون لإنقاذ دولة تشبه في محنتها فلسطين الجريحة.
لا يقتصر “سوبرمان” على تحدي الصورة القديمة والساذجة لـ "إسرائيل" كدولة بريئة فحسب، بل يوجّه سهام النقد أيضاً إلى هشاشة الولايات المتحدة، وسهولة تبدل قراراتها تحت تأثير بعض الشخصيات النافذة، وغرورها الجشع والأناني.
بالطبع قُدمت هذه المضامين بأسلوب معتدل، لأن جيمز غان، صانع الفيلم، لم يشأ أن يغرق عمله في بحر السياسة. مع ذلك، ينقل “سوبرمان” في إطار عملٍ خيالي رسالةً مفادها أنه لم يعد في الإمكان العودة إلى الصورة المثالية المزيفة لـ "إسرائيل"، تلك الصورة التي تبلورت منذ ستينيات القرن العشرين مع فيلم “الخروج” لـ"أوتو برمنجر" وبطولة “بول نيومان”، وترسخت أركانها عقب حرب الأيام الستة عام 1967.
الآن، تهاوت أوهام النشأة الاستعمارية لـ "إسرائيل" ونظامها العنصري البغيض، بعد افتضاح عنفها المستشري وما يعدّه كثيرون إبادةً جماعيةً تجتاح قطاع غزة. أفلام مثل “سوبرمان” توثّق وتعزّز هذه الصورة المتداعية في وجدان الثقافة العامة.