الوقت - مع تفاقم المآزق الأمنية التي تكتنف الكيان الصهيوني وتحيط به من كل جانب، تسعى أمريكا بكل ما أوتيت من حيلة ودهاء لاجتثاث أحد أعظم الهواجس التي تقضّ مضجع هذا الكيان من جهة لبنان، وقد أفضى هذا المسعى المحموم إلى تصاعد الضغوط السياسية التي يمارسها دبلوماسيو أمريكا في بيروت على رجال الدولة اللبنانيين في الأسابيع الأخيرة، بيد أن البيت الأبيض ما زال يقرع أبواباً موصدةً، والمقاومة بحكمتها البالغة وحسن تدبيرها المحكم لم تدع مكائد العدو ودسائسه تؤتي أكلها أو تبلغ مراميها.
لقد توافد مبعوثو البيت الأبيض في الشهور المنصرمة إلى بيروت تترى، يحملون في حقائبهم رزماً من العروض والمقترحات البراقة، يبتغون بها استمالة غالبية الأطياف اللبنانية واستدراجها، ولا سيما في أوساط الطائفة الشيعية الكريمة، لقبول نزع سلاح المقاومة، وكان آخر هذه العروض المشؤومة ما حمله توماس باراك، المبعوث الأمريكي الخاص، إلى المسؤولين اللبنانيين، متضمناً نزع سلاح حزب الله برمته في غضون أربعة أشهر، لقاء وقف الغارات الجوية للكيان الصهيوني الغاشم وانسحاب جحافله من ربوع الجنوب اللبناني، غير أن هذا الطرح المجحف قوبل بالتعديل والتقويم من قبل السلطات في بيروت، وأبلغت حصيلته إلى باراك بواسطة نبيه بري، رئيس مجلس النواب اللبناني.
أفهمَ نبيه بري في محادثته مع توم باراك بلسان بليغ أنه قبل إرغام الكيان الصهيوني على الانصياع التام لوقف إطلاق النار والجلاء عن الأراضي المحتلة في الجنوب، لا مجال للخوض في أي نقاش حول سلاح حزب الله، وأن البحث في هذا الشأن المصيري سيكون في إطار حوار وطني شامل حول الاستراتيجية الدفاعية للبنان.
كما شدّد نبيه بري بعبارات قاطعة على أنه من دون تقديم ضمانات راسخة لا يمكن لشيء أن يمضي قدماً، وخاصةً أن الوثيقة التي جلبها المبعوث الأمريكي في زيارته الثانية إلى بيروت، كانت أسوأ بمراحل من الورقة التي حملها في زيارته الأولى إلى لبنان، حيث حفلت الوثيقة الثانية بتفاصيل مسهبة عن الأسلحة، بل حددت أنواعها وأصنافها ومواصفاتها بدقة متناهية، ويُشاع أن واشنطن طالبت لبنان بأن يسلّم حزب الله جميع طائراته المسيرة وصواريخه الباليستية.
يبدو أن الاقتراح التعديلي الذي صاغه بري لم يرق للأمريكيين ولم يلق هوىً في نفوسهم، وحسب ما أوردته مصادر لبنانية عليمة بخفايا الأمور، فقد أدرك توم باراك من مواقف نبيه بري الصلبة أنه ما دامت الأوضاع على هذا المنوال، فإن إثارة مسألة نزع سلاح المقاومة ستظل أمراً عصياً.
ويمكن استشفاف غيظ باراك وحنقه جلياً في تصريحاته التي أدلى بها عقب لقائه مع نبيه بري، إذ قال بلهجة متغطرسة: “لسنا هنا لنرغم إسرائيل على القيام بشيء، وأمريكا لا تستطيع إجبار إسرائيل على أي شيء”.
لهذا السبب الجوهري، عوَّلت واشنطن على سائر الساسة اللبنانيين، عسى أن تنفذ مخططاتها الخبيثة من خلالهم، ومن هذا المنطلق المشؤوم، أوكلت إلى جوزيف عون، رئيس الجمهورية اللبنانية، مهمة إنجاز سيناريو نزع سلاح حزب الله وإيصاله إلى خواتيمه المرجوة.
وفي هذا الإطار المشبوه، أجرى مؤخراً لقاءات مريبة مع ممثلين مقربين من حزب الله للتوصل الى اتفاق محتمل في هذا الصدد الخطير. وقال عون في كلمة له محملةً بالدلالات: “لبنان يتطلع إلى بسط سيادة الدولة على كامل أرجائه، ونزع سلاح جميع الفصائل المسلحة بما فيها حزب الله، وتسليم العتاد إلى الجيش الوطني”.
تأتي التحركات المحمومة الأخيرة للحكومة اللبنانية لنزع سلاح حزب الله، في الوقت الذي حددت فيه أمريكا مهلةً زمنيةً صارمةً لتحقيق هذا المخطط الجهنمي، وطالبت بيروت بالإسراع في حسم هذه المسألة المصيرية والاستفادة من المساعدات المالية الغربية الموهومة.
نظراً لأن الكيان الصهيوني انتهك اتفاق وقف إطلاق النار أكثر من ثلاثة آلاف مرة خلال الأشهر السبعة المنصرمة، ولم تحرّك أمريكا ساكناً لكبح جماح هذا الكيان ووقف جرائمه البشعة في لبنان، فإن المسؤولين في بيروت لا يضعون ثقتهم في وعود واشنطن الجوفاء، ذلك أنه ما دامت هجمات الصهاينة الغاشمة مستمرةً بلا هوادة، فإن أي محاولة لإحلال الهدوء في شمال الأراضي المحتلة تذهب أدراج الرياح.
كما أكد نبيه بري لباراك بحجج دامغة، فإن تجربة الهجمات الكاسحة لجيش الاحتلال في سوريا، جعلت الرأي العام اللبناني ينظر نظرةً مغايرةً تماماً إلى مسألة نزع سلاح المقاومة، لذا، ومع التطورات العاصفة التي تشهدها المنطقة، باتت المساعي الأمريكية المستميتة لإقصاء حزب الله من البنى السياسية والأمنية، أكثر عسراً واستحالةً.
تزعم واشنطن من جهة في عروضها المعسولة أن الكيان الصهيوني يجب أن ينكفئ عن مواقعه في جنوب لبنان، لكن توم باراك يصرح بوقاحة منقطعة النظير أن واشنطن لا تستطيع إجبار "إسرائيل" على القيام بأي شيء، وهذا التنصل السافر من المسؤولية وغياب الضمانات الغربية الموثوقة، جعل اللبنانيين لا يعقدون آمالاً على مخططات أمريكا الواهية.
اللعبة السعودية الماكرة في تقويض دعائم المقاومة
إلى جانب الضغوط الأمريكية السافرة لتوهين حزب الله وإضعافه، يتعاظم دور المملكة العربية السعودية في هذا المسار الخبيث بصورة لافتة للأنظار، فالرياض التي كابدت علاقات عاصفة مع حزب الله خلال السنوات الماضية، تسعى بدأب لتمهيد السبيل لنزع سلاح هذه الحركة الجهادية عبر المسالك الدبلوماسية والإعلامية والاقتصادية كافةً.
من أبرز مرامي السعودية في هذا الميدان، إقامة معادلة توازن الرعب في مواجهة محور المقاومة، إذ ترى الرياض نفسها مهزومةً في حلبة التنافس الإقليمي مع صعود حركة أنصار الله في اليمن، من المنظور السعودي، يشكّل حزب الله وأنصار الله ركنين أساسيين من أركان محور المقاومة الذي يتربص بالمملكة من جبهتين شمالية وجنوبية، لذا، فإن إضعاف أحد هذين الركنين، وخاصةً حزب الله ذا البنية العسكرية البالغة التعقيد والإحكام، يعدّ ركيزةً من ركائز الاستراتيجية الإقليمية للسعودية.
تروم السعودية بإضعاف حزب الله وتقليص نفوذ إيران في لبنان، أن تمدّ يد العون للكيان الصهيوني بصورة ملتوية، وفي المقابل تستجدي دعم الكيان الصهيوني وأمريكا في احتواء تهديدات أنصار الله في البحر الأحمر ومضيق باب المندب الاستراتيجي.
أدركت السعودية بعد طول غفلة أنها من دون نوع من الموازنة الإقليمية والتحالف مع القوى المناهضة للمقاومة، لن تكون قادرةً على درء المخاطر الأمنية المحدقة بحدودها الجنوبية، وفي هذا السياق، يتجلى تطابق مصالح الرياض وتل أبيب في تقويض دعائم حزب الله وأنصار الله تطابقاً فاضحاً.
والأمر المثير للعجب والاستغراب، أن السعوديين مستعدون حتى لتقبل الوهن البنيوي في لبنان والرضا به، شريطة أن يفضي هذا الوهن إلى إضعاف دور حزب الله وتقريب بنية السلطة من مصالح أمريكا و"إسرائيل" المشؤومة، وتكشف هذه الرؤية القاصرة أن مصالح السعودية في لبنان، تتحدّد في إطار احتواء محور المقاومة والانسجام مع المشاريع الغربية والعبرية، أكثر من كونها قائمةً على دعم السيادة الوطنية والاستقرار الحقيقي.
إن دور السعودية المشبوه في ممارسة الضغوط على حزب الله، لا يسهم قيد أنملة في حلّ أزمات لبنان المستعصية، بل يؤجّج نيران الفوضى ويذكي أوار عدم الاستقرار، بل إن ثمة احتمالاً راجحاً أن تنحدر هذه السياسات نحو هاوية انهيار البنية الوطنية اللبنانية، وبروز سيناريوهات التفتيت والتقسيم المشؤومة.
لقد أماط الكيان الصهيوني اللثام بجلاء تام خلال العامين المنصرمين عن مخططاته الجهنمية لتقسيم لبنان وسوريا وتفتيتهما لضمان أمن حدوده المزعومة، وفي ظل هذه الظروف العصيبة، تقيم سياسات الرياض بوصفها متماهيةً مع هذا المشروع الامريكي الصهيوني الخبيث، دون أن تأبه للعواقب الكارثية المترتبة على هذا النهج المدمر.
بغير حزب الله لا أمن يُرتجى
رغم مزاعم المسؤولين في واشنطن الجوفاء بأن حكومة لبنان قادرة بمفردها على صون أمن هذا البلد وحمايته، فإن تجربة العقود الماضية أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن المقاومة هي التي صمدت في وجه الغزاة المحتلين، ولم تسمح للصهاينة الطامعين بتمزيق لبنان وتفتيت أوصاله.
لقد حذّر قادة حزب الله مراراً وتكراراً بلسان لا لبس فيه من أن سلاح المقاومة خط أحمر، ولن يفرطوا فيه مهما كانت الضغوط والإغراءات، وفي أحدث خطاباته المدوية، صرح الشيخ نعيم قاسم، الأمين العام لحزب الله، مشيراً إلى الصلة الوثيقة بين المقاومة والبنية الحكومية في لبنان: “نسير في دربين متوازيين متكاملين، أحدهما تحرير الأرض المقدسة والآخر بناء الدولة العادلة. المقاومة عماد الجيش وسنده، وثلاثية الجيش والشعب والمقاومة يجب أن تكون فاعلةً حيةً لا مجرد شعار أجوف”.
كما أكد نعيم قاسم بشأن اتفاق وقف إطلاق النار في جنوب لبنان بعبارات حاسمة: “أسهمت المقاومة في مساعدة الحكومة اللبنانية على تنفيذ هذا الاتفاق، لكن مسالة نزع سلاح حزب الله شأن داخلي محض لا صلة للكيان الصهيوني به من قريب أو بعيد”، وأعلن بصراحة لا تقبل التاويل: “لا ينبغي لأحد كائناً من كان أن يطالبنا بتسليم سلاحنا، لأن هذا يعني في حقيقة الأمر تسليم القوة الوطنية اللبنانية إلى اسرائيل على طبق من ذهب. من يطلب ذلك فهو في الواقع ينفذ مشروع العدو شاء أم أبى”.
تاكيداً لتصريحات الأمين العام لحزب الله، يمكن الجزم بأن نزع سلاح هذه الحركة المقاومة سيجعل الجيش اللبناني عاجزاً بمفرده عن التصدي للعدوان الصهيوني المحتمل، تدعي أمريكا وحلفاؤها زوراً وبهتاناً أنهم بإقصاء حزب الله من البنية العسكرية والأمنية للبنان، وإسناد هذه المسؤوليات الجسام إلى الجيش وحده، يسعون لإيجاد بنية موحدة متماسكة في لبنان، بنية يزعمون أنها ستفضي إلى تعزيز مؤسسات الدولة وقيام دولة عصرية مستقلة، غير أن هذا الزعم الأجوف يبتعد في الحقيقة بعداً شاسعاً عن الوقائع السياسية والاجتماعية الراسخة في لبنان، فلبنان ليس ديمقراطيةً كلاسيكيةً على النسق الغربي، بل بلداً ذا نظام سياسي فريد قائم على التوافقات الطائفية الدقيقة، وتقاسم السلطة بين الطوائف المتنوعة.
لطالما كانت الحكومات اللبنانية المتعاقبة وليدة ائتلافات مصلحية هشة بين التيارات الطائفية، لا تجسيداً صادقاً للإرادة الوطنية الجامعة، لذا لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار مواقف الحكومة الراهنة تعبيراً أميناً عن إرادة الشعب الحقيقية، إن ما يمكن أن يبرز بحق مدى النفوذ الاجتماعي والسياسي لأي تيار، هو صندوق الاقتراع الحر النزيه، حيث ما زال حزب الله يتربع على عرش قاعدة شعبية صلبة راسخة، وقد تجلى هذا الأمر بوضوح ساطع في الانتخابات البلدية الأخيرة (2024) التي أحرز فيها المرشحون المحسوبون على حزب الله انتصارات ساحقة بأصوات الجماهير الغفيرة.
لم تكن هذه الانتصارات المدوية مجرد مكسب سياسي عابر، بل كانت برهاناً قاطعاً على الثقة الشعبية الراسخة بالمقاومة ونفوذها العميق المتجذر في المجتمع، وفي مثل هذا المناخ المشحون، يستحيل إيجاد بنية موحدة متجانسة بمجرد إقصاء قوة محورية كحزب الله، وخاصةً أن حزب الله ليس مجرد قوة عسكرية مجردة، بل تعتبره الأغلبية الساحقة من المجتمع اللبناني التجسيد الحي للمقاومة والاستقلال والكرامة الوطنية، والضامن الحقيقي للتوازن الهش على تخوم الأراضي المحتلة.
وفي الختام، فإن مساعي أمريكا وحلفائها المحمومة لإقصاء حزب الله عن المشهد السياسي والأمني في لبنان، تتناقض تناقضاً صارخاً مع بنية القوة الفعلية في هذا البلد وتتجاهل إرادة الشعب الحرة، ومن دون إدراك هذه الحقائق الدامغة، فإن المشاريع الغربية المشبوهة في لبنان لن تفضي إلى الاستقرار المنشود، بل ستقود حتماً إلى صدوع جديدة وشروخ أعمق في جسد لبنان.