الوقت- بينما يموت يومياً عشرات، وربما مئات الأطفال الفلسطينيين جوعاً أو بالقصف المباشر، خرج دونالد ترامب ليشتكي، لا من هول المجازر ولا من فظاعة الجريمة، بل لأنه لم يتلقّ كلمة "شكر" على إرسال بعض المال لغزة، هذه التصريحات التي أدلى بها من اسكتلندا، إلى جانب أورزولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، تكشف عن مرض أخلاقي وسياسي متجذر في العقلية الأمريكية المتعالية عند التعامل مع المآسي الإنسانية، وخصوصاً عندما تكون ضحاياها شعوبًا لا تملك القوة الكافية لفرض وجودها على الطاولة الدولية.
ليس هناك كلمة شكر للجلاد!
في تصريح يظهر مدى الاستكبار الأمريكي قال ترامب: "لقد منحنا غزة 60 مليون دولار منذ أسبوعين من أجل الطعام، لكن لا أحد اعترف بذلك، لا أحد تحدث عنه، وعندما يحدث ذلك، فإنك تشعر بالسوء، هناك دول أخرى لا تقدم شيئاً، ومع ذلك لا أحد يلومهم". وأضاف: "لم يقل أحد حتى كلمة (شكراً)، من الجيد أن نسمع شكراً واحدة على الأقل".
لم يوضح ترامب مصدر هذا المبلغ ولا آلية تسليمه، غير أن تقارير صحفية (مثل رويترز) تحدثت سابقاً عن أن الخارجية الأمريكية أقرت صرف 30 مليون دولار لمصلحة منظمة إنسانية مثيرة للجدل في غزة، غير أن الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية أكدت أن هذه المراكز نفسها أصبحت نقاط قتل جماعي، حيث أطلق جنود الاحتلال الرصاص على عائلات جائعة كانت تبحث عن رغيف خبز.
تصريحات ترامب تعكس ازدواجيةً في التفكير الأمريكي: من جهة، يُفترض أن تكون المساعدة الإنسانية عملاً واجبًا وليس مكرمة، ومن جهة أخرى، يتم تحميل الضحايا مسؤولية الجريمة، لا لشيء إلا لأنهم لم يقدّموا الشكر للجلاد.
سياسة التجاهل والاستهزاء
العنجهية الأمريكية لا تنفصل عن السياق الأوسع لطريقة تعاطي واشنطن مع القضايا الإنسانية، تاريخياً، كانت الولايات المتحدة تتعامل مع معاناة الشعوب بمنطق استعلائي: إما أن تشكروا واشنطن على تدخلها، أو يتم وصفكم بالمخربين والإرهابيين، المساعدات الأمريكية غالبًا ما تكون مشروطة سياسيًا، ويتم تسويقها على أنها تبرع خيري من شعب كريم، بينما تُستخدم في الواقع كأداة ضغط وابتزاز.
وفي حالة غزة، فإن الولايات المتحدة تموّل آلة الحرب الإسرائيلية بشكل مباشر، وتوفر لها الحماية السياسية في مجلس الأمن، وتمنع إصدار قرارات حازمة لوقف المجازر أو حتى فرض هدنة إنسانية دائمة، كيف يمكن لدولة ترسل قنابل ذكية تُسقط على رؤوس الأطفال، أن تطالب في الوقت نفسه بالشكر على صندوق غذاء لا يصل أصلاً إلى مستحقيه؟
"إسرائيل" تمنع، وترامب يشكو
في هذا المشهد المتناقض، نجد أن الاحتلال الإسرائيلي وبدعم أمريكي كامل هو العقبة الأساسية أمام دخول المساعدات، سواء من خلال قصف الشاحنات، أو منع وصولها عبر المعابر، أو حتى قصف الناس المنتظرين في طوابير المساعدات، ومع ذلك، يتحدث ترامب وكأن المعاناة الفلسطينية ناتجة عن تقاعس فلسطيني، لا عن تجويع متعمد.
في مايو وحده، حسب مكتب حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، قُتل أكثر من ألف فلسطيني أثناء محاولتهم الوصول إلى مراكز توزيع الغذاء، أي إنه بدل أن يحصلوا على وجبة، حصلوا على رصاصة، ورغم ذلك، تصر الإدارة الأمريكية، سواء بقيادة بايدن أو خلال تصريحات ترامب، على غض الطرف، بل وتكرار الأكاذيب الإسرائيلية عن أن حماس تسرق المساعدات.
لا دليل على سرقة المساعدات
في تقرير نشرته نيويورك تايمز، أكد مسؤولون عسكريون إسرائيليون أن لا دليل لديهم على أن حماس تسرق المساعدات، هذا النفي يأتي في سياق محاولات "إسرائيل" تشويه سمعة الأونروا والمنظمات الإنسانية الأخرى، لفرض بدائل موالية لها، وقال المفوض العام للأونروا فيليب لازاريني إن "هذه الاتهامات تهدف لتقويض مصداقية المجتمع الإنساني، واستبداله بمخطط توزيع شرير مدفوع بأجندة سياسية".
لكن بدلاً من أن تدافع الولايات المتحدة عن القانون الدولي أو عن حياد العمل الإنساني، نجدها تتبنى السردية الإسرائيلية بالكامل، وتساهم في تضليل الرأي العام العالمي.
الأمم المتحدة ونتنياهو: هجوم مضاد
وفي السياق ذاته، وبعد الإعلان عن هدنة تكتيكية لتسهيل وصول المساعدات، خرج نتنياهو ليهاجم منظمة الأمم المتحدة، متهمًا إياها بـ"التواطؤ"، في وقتٍ تصفه محكمة لاهاي مجرم حرب وتسعى لاعتقاله، هجوم نتنياهو على الأمم المتحدة يهدف لتقويض أي مساعٍ لوقف إطلاق النار، وللتنصل من المسؤولية القانونية عن الجرائم المرتكبة.
ويبدو أن حكومة الاحتلال الاسرائيلي، مدعومة بالغطاء الأمريكي الكامل، تتبنى استراتيجية "الهجوم كأفضل دفاع"، حيث تواجه التقارير الحقوقية الدولية بردود فعل عدائية، بدلاً من التحقيق أو تقديم إجابات.
ازدواجية المعايير الغربية
بينما يموت الفلسطينيون جوعًا وتُمنع عنهم المساعدات في كارثة لم يشهد لها التاريخ مثيل، تصدر التصريحات الأوروبية والأمريكية بصيغة خجولة، تدعو إلى "ضبط النفس"، دون أي ضغط حقيقي على "إسرائيل" لفتح المعابر أو وقف المجازر، هذا الصمت هو شراكة غير مباشرة في الجريمة.
الجنون أم النرجسية؟
عندما يقول ترامب إن شعوره سيئ لأن أحدًا لم يشكره، فإن السؤال الذي يفرض نفسه: هل نحن أمام حالة من جنون العظمة أم اضطراب نرجسي مزمن؟ من الواضح أن هذه ليست مجرد زلة لسان، بل انعكاس لذهنية ترى العالم كمسرح يُصفق فيه الجميع للسيد الأمريكي كلما تحرك.
لكن الحقيقة أن دماء أطفال غزة لا تحتاج إلى تصفيق، بل إلى عدالة، والعدالة لا تُشترى بـ60 مليون دولار مشكوك في مصيرها، بل تُبنى على محاسبة القتلة وإيقاف الإبادة الجماعية.
ختام القول
لا شك أن تصريحات ترامب، وهجوم نتنياهو على الأمم المتحدة، وتواطؤ الحكومات الغربية، كلها أجزاء من مشهد واحد: مشهد يفضح تهاوي المنظومة الدولية، واحتقارها لحقوق الإنسان عندما لا تتوافق مع المصالح السياسية، غزة اليوم لا تحتاج شكرًا، بل وقفًا فوريًا للتجويع، والمجازر، والحصار، وأحرار العالم وحدهم من يتحدثون، بينما الكبار منشغلون بحسابات الشكر والمصالح، لا بعدد القتلى.
وهكذا، تتكشف الوقائع يوماً بعد يوم: الجريمة مستمرة، والمجرمون يتفاخرون، والضحايا يُطالبون بالصمت... وربما بالشكر أيضاً.