الوقت - لا تزال مسألة إقامة ممر زنجيزور المزعوم تلقي بظلالها على العلاقات بين جمهورية أذربيجان وأرمينيا، محدثةً شرخاً عميقاً بينهما، وقد بادرت الحكومة الأرمينية في الآونة الأخيرة إلى إصدار بيان صارم تدحض فيه ما نشرته إحدى الصحف الإسبانية، نافيةً بحزم وجود أي اتفاق ثلاثي بشأن “زنجيزور”، واصفةً هذه المزاعم بأنها “حرب هجينة ودعاية مخادعة” تستهدف تضليل الرأي العام.
للوقوف على حقيقة الوضع الراهن لممر زنجيزور، ودور القوى الإقليمية والدولية في مساعي تنفيذه، التقينا بالدكتور “حسام الدين برومند”، الخبير في شؤون المنطقة، لاستجلاء دور اللاعبين الدوليين في تحريك عجلة تنفيذ ممر زنجيزور. وفيما يلي نص الحوار:
الوقت: لماذا تتشبث جمهورية أذربيجان بتنفيذ ممر زنجيزور متجاهلةً التحذيرات الإيرانية الواضحة؟
الدكتور حسام الدين برومند: يسعى ممر زنجيزور، مخترقاً أراضي مقاطعة سيونيك الأرمينية، إلى مدّ جسور الوصل بين نخجوان وجمهورية أذربيجان وتركيا، ومن الجدير بالتبصر أن غاية هذا المشروع الطموح تتجاوز مجرد تقويض المكانة العبورية لإيران، بل تكمن روح المسألة في تطلع باكو للهيمنة على أسواق الطاقة والمسالك الاستراتيجية لتعزيز نفوذها الإقليمي.
تراود السلطات الأذربيجانية أحلام السيادة على طرق العبور في المنطقة عبر تدشين هذا الممر، غير أن صناع القرار في باكو قد أغفلوا في حساباتهم عناصر جوهرية، يتصدرها الموقف الإيراني الصلب والراسخ، فقد غاب عن أذهانهم أن إقامة ممر زنجيزور يمثّل خطاً أحمر أعلنته طهران بكل وضوح، وهو خط لا يقبل المساومة ولا يعرف المرونة.
الوقت: من هم المتنفذون الإقليميون والدوليون المتوارون خلف ستار قضية زنجيزور غير جمهورية أذربيجان؟
الدكتور حسام الدين برومند: يحمل ممر زنجيزور المزعوم في طياته تحولات جيوسياسية عميقة الأثر تطال البلاد والإقليم بأسره، ومن هنا، تتشابك خيوط هذه المسرحية السياسية بين أيدي عدة لاعبين متنفذين، فالمشهد أعقد من أن يُختزل في دور باكو وحدها.
تقف تركيا في مقدمة المسرح كلاعب محوري يتوق إلى تعزيز هيمنته على طريق الحرير الممتد من الصين إلى أوروبا، وتختزن أنقرة في جعبتها مآرب تجارية وطموحات سياسية لإقامة صلة وصل برية مباشرة بينها وبين جمهورية أذربيجان، مستلهمةً رؤيتها من حلم اتحاد الشعوب الناطقة بالتركية، إن مساعي تركيا في متابعة تنفيذ ممر زنجيزور بادية للعيان، إذ تتطلع لمنازلة إيران وروسيا في ميدان العبور والتجارة، أما جمهورية أذربيجان فتستشرف في تنفيذ هذا الممر بارقة أمل تمنحها موطئ قدم راسخاً في الغرب.
بيد أن الولايات المتحدة الأمريكية هي المخرج الحقيقي لمسرحية زنجيزور، وهي التي تلح بإصرار على تنفيذ هذا الممر بغية إعادة تشكيل الخارطة الجيوسياسية للمنطقة وفق مصالحها، فلو تحقق هذا المشروع الطموح، لما اقتصرت تداعياته على تقويض الطرق العبورية الإيرانية فحسب، بل ستُطبق على إيران أطواق الاختناق الجيوسياسي، وهو مطمح بالغ الأهمية لواشنطن في صراعها المحتدم مع طهران، وقد أطلقت إيران في الآونة الأخيرة صيحات تحذير متوالية إلى جمهورية أذربيجان بشأن ممر زنجيزور، غير أن الحقيقة الناصعة تكشف أن باكو ليست سوى دمية تحركها أصابع خفية، فمخرجو مسرحية زنجيزور هم الأمريكيون الذين يتشبثون بتنفيذ مخططهم الرامي إلى خنق إيران جيوسياسياً.
وعلى الصعيد الاستراتيجي الأشمل، تسعى أمريكا ضمن منظومتها الأمنية إلى تقويض أركان مثلث التحالف الاستراتيجي بين إيران والصين وروسيا، وتتوهم واشنطن أن تدشين ممر زنجيزور سيلقي بظلاله الثقيلة على حدود إيران ومكانتها العبورية، كما تتطلع واشنطن إلى صياغة نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط، وهي لا تكتفي بدعم "إسرائيل" لبلوغ هذه الغاية، بل تسلك دروباً شتى ومسالك متنوعة لتحقيق نظام إقليمي يحمل بصمتها الأمريكية، وفي قلب هذا النظام الإقليمي المنشود، سيكون ممر زنجيزور أحد الأذرع الضاغطة على الخاصرة الجيوسياسية الإيرانية.
الوقت: ما البدائل الاستراتيجية المتاحة لإيران في حال تدشين ممر زنجيزور؟
الدكتور حسام الدين برومند: يجدر بنا أن نستشعر أن إيران تخوض اليوم، من منظور جيوسياسي، معركةً ضروساً في ساحة حرب الممرات، وكما أسلفنا القول، فإن ممر زنجيزور يتجاوز في جوهره لكونه مجرد ممر أحادي البعد، بل يضمر في طياته مقاصد وأبعاداً تتخطى حدود التجارة والأهداف العبورية.
غير أن ثمة مسالك استراتيجية قد تحول دون تبلور هذا المشروع، ويتعين على إيران أن تتبنى استراتيجيةً متعددة الأوجه في مجابهة ممر زنجيزور، فبمقدور طهران أن تنتهج نهجاً دبلوماسياً أكثر فاعليةً وحيويةً في التصدي لهذا التحدي، وبالتوازي، فإن توثيق عُرى التعاون الاقتصادي والعسكري بين إيران ويريفان، من شأنه أن يصون شريان الاتصال البري الحيوي بين إيران وأرمينيا.
ومن زاوية أخرى، يتسنى لإيران أن توطّد أواصر التعاون والتقارب مع الصين وروسيا إزاء ممر زنجيزور، وكما يدفع التحالف الثلاثي المتمثل في جمهورية أذربيجان وتركيا وأمريكا بعجلة مشروع زنجيزور قُدماً، يتحتم على إيران أن تنسج تحالفاً ثلاثياً وثيق العُرى مع الصين وروسيا للوقوف سداً منيعاً في وجه مخطط زنجيزور.
وعلاوةً على ذلك، يتوجب على طهران أن تتجاوز نطاق الرسائل والتحذيرات الدبلوماسية المعهودة وأن تنخرط في مواجهة حاسمة مع باكو ذاتها، متقبلةً كل تداعيات هذا المسلك، لتضع النقاط على الحروف مع باكو مرةً واحدةً وللأبد، إذ إن الممر الذي تتوق إليه جمهورية أذربيجان لا تقتصر أبعاده على الجوانب العبورية فحسب، بل تنطوي تداعياته بالنسبة لإيران على مخاطر جسيمة وآثار بعيدة المدى.