الوقت- منذ بداية عدوانها الأخير على قطاع غزة في أكتوبر 2023، لم تكتفِ حكومة الاحتلال الغاصب باستخدام الآلة العسكرية لسحق البنية التحتية وتفتيت المجتمع الفلسطيني فحسب، بل عمدت إلى تحويل الحرب إلى مشروع اقتصادي قائم على الدم والخراب، وفي هذا السياق، كشفت صحيفة "هآرتس" العبرية في تقرير صادم، أن الجيش الإسرائيلي يمنح مقاولي الهدم من القطاع الخاص مكافآت مالية تصل إلى خمسة آلاف شيكل (نحو 1500 دولار أمريكي) عن كل منزل فلسطيني يتم تدميره في غزة، هذه الممارسة، التي توثق انحدارًا أخلاقيًا وعسكريًا خطيرًا، تتجاوز حدود الحرب التقليدية لتدخل في إطار الإبادة الجماعية الممنهجة التي تُنفذ على مراحل: الهدم، القتل، التجويع، وأخيرًا التهجير القسري.
الهدم مقابل المال: حين يتحول الدمار إلى استثمار
إن تجنيد مقاولي هدم خاصين للعمل إلى جانب الجيش الإسرائيلي في غزة ليس مجرد وسيلة لزيادة فعالية التدمير، بل يمثل تحولًا مرعبًا في طبيعة العدوان، فالمقاولون، حسب شهادات جنود نشرتها "هآرتس"، يتقاضون 1500 دولارًا عن كل بيت يُهدم، ما يجعل من كل ساعة لا يُهدم فيها بيت "خسارة مالية" كما عبّر أحد الجنود، ومن أجل تعويض هذه "الخسارة"، يصبح القتل مقبولًا، بل ضروريًا.
في مشهد يعيد إلى الأذهان أسوأ فصول الاستعمار والإبادة، يندفع هؤلاء المقاولون إلى أعماق المناطق السكنية في غزة، بمرافقة "قوات أمنية صغيرة نسبيًا"، قريبة من نقاط توزيع المساعدات أو طرق عبور الشاحنات، ولأن وجودهم هناك يشكّل خطرًا على حياتهم حسب زعمهم، فإنهم يطلقون النار على الفلسطينيين الذين يصطفون من أجل الحصول على الطعام، ما يؤدي إلى سقوط قتلى ومصابين، الهدف النهائي ليس حماية المقاولين، بل استمرار عمل الهدم المدفوع الثمن، ولو كان الثمن أرواحًا بشرية بريئة.
سياسة ممنهجة: إطلاق النار على الجياع
التقرير ذاته يفضح جانبًا أكثر ظلمة في هذه الممارسات، يتمثل في التعليمات العسكرية الصادرة من قادة ميدانيين كبار بإطلاق النار عمدًا على الفلسطينيين الذين ينتظرون المعونات الغذائية، قائد الفرقة 252، العميد "يهودا فاخ"، أصدر تعليمات مباشرة بتفريق التجمعات الفلسطينية المنتظرة للمساعدات بإطلاق النار، وهي سياسة اعتُمدت ضمن وحدات مختلفة و"تقبّلها العديد من القادة والجنود بتفهّم"، حسب شهادة ضابط في الفرقة نفسها.
هذه السياسة المروعة تجبر الفلسطينيين على اختيار مفزع: إما الموت جوعًا أو الموت برصاص الجيش الإسرائيلي، ففي حالات عدة، حسب الجنود، يتم إطلاق قذائف مدفعية على تجمعات من المدنيين قرب الشاطئ، ينتظرون مساعدات الأمم المتحدة، وفي حادثة موثقة، وبعد إطلاق قذيفة أولى، بدأت مجموعة من الفلسطينيين بالفرار، ليُفاجَؤوا بوابل من الرصاص يلاحقهم من وحدات إسرائيلية أخرى، في مشهد يعكس وحشية غير مسبوقة وتخليًا تامًا عن المبادئ الإنسانية والعسكرية.
انهيار القيم العسكرية وتحول الأيديولوجيا إلى خطة عملياتية
لا يُعد هذا السلوك نتاج قرار عسكري معزول، بل يتحدث ضباط في الجيش الإسرائيلي عن تآكل واضح في القيم الأخلاقية للجيش، ويعبّر أحدهم عن مخاوفه من أن هذا السلوك ليس فقط "ضرورة عملياتية" أو "خطأ تقدير"، بل هو أيديولوجيا متجذرة لدى بعض القادة الميدانيين، تُمرّر إلى الجنود على أنها خطط عملياتية مشروعة.
وهذا ما يجعل جريمة الحرب في غزة ليست فقط نتيجة ممارسات فردية أو تجاوزات محدودة، بل هي سياسة دولة كاملة تُشرعن الموت، وتُكافئ التدمير، وتُؤسّس لقتل الإنسان الفلسطيني كأمرٍ طبيعي ضمن منظومة عسكرية.
التهجير المخطط: تدمير الحياة لتسهيل الرحيل
في ظل هذا السياق الإجرامي، لا يمكن فصل الهدم والقتل والتجويع عن المخطط الأكبر للتهجير القسري الذي تعمل عليه إسرائيل منذ بدء العدوان، فالتدمير الممنهج لمنازل غزة، ولا سيما في شمال القطاع، وتحويل أحياء بأكملها إلى أنقاض، يمثل خطوة استراتيجية تمهد لتفريغ القطاع من سكانه، ووفقًا لتقارير وتسريبات عديدة، فإن "إسرائيل"، بدعم من بعض الجهات الغربية، تسعى إلى دفع الفلسطينيين إلى الهروب جنوبًا، أو إلى خارج القطاع عبر سيناء، في تكرار لنكبة 1948 لكن بأسلوب جديد يتناسب مع "الحقبة الإسرائيلية الحديثة".
إن تحويل بيوت الفلسطينيين إلى أهداف مالية، وقتلهم وهم يسعون خلف كسرة خبز، يمثل إباحة رسمية للموت كسياسة ممنهجة، وجزءًا لا يتجزأ من خطة تهدف إلى محْو غزة سكانيًا وجغرافيًا.
واشنطن وتل أبيب: شراكة في التجويع
لا يمكن تجاهل البعد الأمريكي في هذه الجريمة، إذ تدير واشنطن وتل أبيب منذ الـ 27 من مايو/أيار 2025 خطة لتوزيع مساعدات محدودة، في الوقت الذي تغلق فيه "إسرائيل" كل معابر غزة منذ الـ 2 من مارس/آذار، عشرات الشاحنات فقط يُسمح لها بالدخول، في حين أن القطاع بحاجة إلى ما لا يقل عن 500 شاحنة يوميًا.
بعبارة أخرى، يُجبر الفلسطيني على المخاطرة بحياته لأجل الحصول على علبة طعام أو كيس دقيق، فيما الجنود ينتظرون قنصه من خلف تلة ترابية، وبهذه الطريقة، تتكامل أدوات القتل: الحصار، التجويع، القنص، والتدمير، ضمن نظام متكامل يهدف إلى تطويع السكان أو تهجيرهم بالقوة.
الإبادة الجماعية: من الخيال إلى الواقع
تجتمع عناصر الجريمة كما تُعرف في القانون الدولي: نية الإبادة، الوسائل الممنهجة، الاستهداف الجماعي، غياب الضرورة العسكرية، وتوافر بدائل سلمية، وبهذا المعنى، فإن ما يحدث في غزة ليس "حربًا" بمفهومها الكلاسيكي، بل إبادة جماعية يجري تنفيذها بدمٍ بارد وبمكافآت مالية.
ويكفي أن نعيد صياغة العبارة الصادمة التي أوردها التقرير العبري:
"من أجل أن يجني المقاول 5.000 شيكل إضافية، يتم اتخاذ قرار بأنه من المقبول قتل أشخاص يبحثون عن طعام".
هنا، لا يقف الموت على جبهات القتال، بل يُصبح سياسة تمويل، وتيارًا يجرف كل معاني الإنسانية.
من التوثيق إلى المحاسبة
إن ما ورد في تقرير "هآرتس" ليس شهادة فلسطينية أو رواية صحفية عربية، بل هو اعتراف من داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية نفسها، الجنود يفضحون قادتهم، والضباط يُحذّرون من انهيار القيم، والصحافة العبرية تسجّل لحظة الانهيار الأخلاقي الكامل.
يبقى أن تتحرك المؤسسات الدولية والمحاكم الجنائية لتضع حداً لهذا الجحيم المفتوح، فلا يكفي التوثيق، بل يجب الانتقال إلى مرحلة المحاسبة الدولية والعقوبات السياسية والجنائية، لأن كل دقيقة تمر دون رادع، تعني مزيدًا من المنازل المهدومة، والجياع المقتولين، والضحايا الذين يُقدَّمون على مذبح الربح والمشروع الصهيوني.
في غزة، لم تعد القضية فقط قضية احتلال…
بل قضية تسعير الموت وبيع الدمار… باسم "الأمن"، وبقيمة 5 آلاف شيكل فقط.