الوقت - في مشهد دبلوماسي يثير كثيرًا من التساؤلات ويعكس تحوّلًا مثيرًا للجدل في مواقف القوى الكبرى من نزاع الصحراء الغربية، أعلنت بريطانيا عبر وزير خارجيتها، ديفيد لامي، تبنّيها للمقترح المغربي بشأن الحكم الذاتي، واصفة إياه بـ"الأكثر مصداقية وقابلية للتطبيق".
هذا التصريح، الذي جاء عقب لقاء مع نظيره المغربي ناصر بوريطة، لم يكن عابرًا أو هامشيًا، بل مثّل خروجًا صريحًا عن الموقف البريطاني التقليدي الذي كان، حتى وقت قريب، يدعم حلًا سياسيًا يضمن للشعب الصحراوي حقه في تقرير المصير.
لكن ما الذي يدفع قوة دولية بحجم بريطانيا، وعضوًا دائمًا في مجلس الأمن، إلى خرق توازنها المعلن والانحياز لموقف أحادي يتعارض مع قرارات الشرعية الدولية؟ هل هو انتصار للدبلوماسية الهادئة كما يدّعي المغرب، أم هو سقوط أخلاقي جديد في اختبار العدالة الدولية، تتورط فيه لندن بدوافع جيوسياسية واقتصادية؟
في مقابل الحفاوة التي استُقبل بها الموقف البريطاني في الرباط، جاء الرد الجزائري واضحًا ومتماسكًا، عبر بيان صادر عن وزارة الخارجية، أعربت الجزائر عن أسفها للموقف البريطاني، مشددة على أن ما جرى لا يُمثل انحيازًا محايدًا، بل تماهياً مع محاولة المغرب فرض الأمر الواقع الاستعماري في الصحراء الغربية.
وأشارت الجزائر إلى أن المبادرة المغربية، على مدار ثمانية عشر عامًا، لم تُعرض يومًا على الصحراويين كأساس للتفاوض، ولا تعامل معها مبعوثو الأمم المتحدة المتعاقبون كحل جاد، بل وصفوها مرارًا بأنها فارغة المحتوى وغير قابلة لإنتاج حل دائم وعادل للنزاع.
بلهجة صارمة ولكن متزنة، لفتت الخارجية الجزائرية إلى أن جوهر خطة الحكم الذاتي لم يكن يومًا البحث عن حل، بل تضييع الوقت، ومنع أي تقدم نحو تسوية حقيقية، وتهيئة الرأي العام الدولي لتقبّل الاحتلال غير الشرعي.
ازدواجية لندن
ورغم أن وزير الخارجية البريطاني لم يذهب حد الاعتراف الصريح بـ"السيادة المغربية" على الصحراء، إلا أن تصريحاته تُفهم ضمنًا كخطوة في هذا الاتجاه، وخاصة في ضوء السياق العام للزيارة والمصالح الاقتصادية التي صاحبتها، فالاتفاق الموقّع بين الطرفين يفتح الباب أمام دعم مشاريع بريطانية في "الصحراء المغربية"، ما يترجم إلى اعتراف عملي ومالي، لا يختلف في جوهره عن الاعتراف السياسي.
غير أن الجزائر، في محاولة لحفظ التوازن، رصدت بدقة ما وصفته بـ"الازدواجية" في الموقف البريطاني، مشيرة إلى أن لندن لم تُقدم دعمًا صريحًا للسيادة، بل تمسكت بمبدأ تقرير المصير في التصريحات الرسمية، وهنا تكمن المفارقة: دعم خطة الحكم الذاتي دون الاعتراف بالسيادة، ما هو إلا لعبة لغوية تُخفي وراءها تحوّلاً دبلوماسيًا خطيرًا في موازين النزاع.
الرباط: انتصارٌ دعائي لا يغيّر قواعد القانون الدولي
على الجانب المغربي، لم تُفوّت الرباط الفرصة لتقديم ما حدث على أنه "تحول تاريخي"، ونقطة ضوء في مسلسل الاعترافات المتتالية، بدءًا من الولايات المتحدة، مرورًا بفرنسا وإسبانيا، وانتهاءً ببريطانيا، وبأسلوب دعائي، اعتُبر تصريح لامي "دفنًا نهائيًا" لآمال الصحراويين في تقرير مصيرهم، في حين أن الواقع الدولي لا يزال يحتكم لقرارات مجلس الأمن التي تصنّف الإقليم كـ"غير متمتع بالحكم الذاتي".
لكن هذا "الانتصار الدعائي" لم يستند إلى أي قاعدة قانونية جديدة، ولا إلى موقف موحد داخل مجلس الأمن، ولا حتى إلى إجماع داخل الساحة البريطانية نفسها، فقد ظهرت انتقادات داخل بريطانيا، من بعض الشخصيات السياسية والحقوقية التي رأت في هذا التوجه تهديدًا للحياد البريطاني التاريخي وتورطًا في سياسة فرض الأمر الواقع.
الشرعية الدولية في خطر
ما يثير القلق أن هذا التحول البريطاني يأتي في وقت يزداد فيه تقويض القانون الدولي، وتُستبدل المبادئ بالصفقات، وتُضحّى الشعوب المستعمرة على مذبح المصالح الاستراتيجية، ويبدو أن بريطانيا، التي طالما تباهت بدفاعها عن حقوق الإنسان والقانون الدولي، باتت اليوم تتخلى تدريجيًا عن هذا الإرث، مقابل تعزيز نفوذها الاقتصادي في إفريقيا، وخاصة في ظل مرحلة ما بعد "بريكست" وحاجتها لبناء شراكات تجارية جديدة.
لكن الرهان على هذه التحولات ليس مضمونًا، فالملف الصحراوي لا تحسمه التصريحات الفردية، ولا المبادرات الأحادية، بل تحسمه الشرعية الدولية التي لا تزال تؤكد أن الحل يكمن في تمكين الشعب الصحراوي من ممارسة حقه في تقرير المصير، دون إملاءات أو وصاية.
وسط هذا التواطؤ الدولي المتزايد مع الطرح المغربي، تبقى الجزائر ثابتة في موقفها، لا تساوم على حق الشعوب، ولا تنجرّ إلى ردود أفعال متهورة، فهي لم تُقدِم، كما فعلت مع دول أخرى، على سحب سفيرها من لندن، إدراكًا منها أن المواجهة الحقيقية ليست إعلامية، بل سياسية وحقوقية على مستوى المؤسسات الدولية.
وتبقى رسالة الجزائر واضحة: لا حل دون العودة إلى صوت الشعب الصحراوي، أما محاولات تزييف الواقع وتقديم الاحتلال كحل، فلن تصمد أمام حقائق التاريخ والجغرافيا والشرعية.