الوقت- في تصعيد دموي جديد يضاف إلى سجلّ الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة، ارتكبت قوات الاحتلال مجزرة مروّعة استهدفت مدرسة فهمي الجرجاوي الواقعة في حي الدرج وسط مدينة غزة، في الـ 25 من مايو 2025، وخلّف القصف 36 شهيدًا على الأقل، بينهم عشرة أطفال وخمس نساء، إضافة إلى عشرات الجرحى، هذه المجزرة تأتي في وقتٍ يشهد فيه ملف التفاوض بشأن هدنة مؤقتة حالة من الشد والجذب بين أطراف الصراع، وسط محاولات دولية متعثرة لوقف العدوان المستمر منذ أكثر من سبعة أشهر.
قصف مدرسة تؤوي نازحين
وفقًا لما أفادت به شبكة الجزيرة، فإن الطائرات الحربية الإسرائيلية قصفت مبنى مدرسة فهمي الجرجاوي، والتي كانت قد تحوّلت إلى مركز لإيواء مئات النازحين الفارين من مناطق القصف في شمال القطاع وشرقه، القصف جاء بشكل مفاجئ ودون سابق إنذار، ما أدى إلى اندلاع حرائق هائلة داخل المبنى المكون من طابقين، واحتراق جثث عشرات المدنيين.
فرق الإسعاف والدفاع المدني عملت لساعات طويلة على انتشال جثامين الشهداء والبحث عن ناجين تحت الركام، وسط صدمة الأهالي الذين فقدوا أحبّاءهم، وقال أحد المسعفين لقناة الجزيرة: "ما رأيناه لا يمكن وصفه... أطفال تفحمت جثثهم، نساء لم نستطع التعرف عليهن إلا من خلال المجوهرات أو بقايا الملابس".
وزارة الصحة في غزة وصفت الهجوم بأنه "مذبحة متعمّدة ضد مدنيين عزل، وتعبير صارخ عن استهتار الاحتلال بكل القوانين الدولية والإنسانية"، محذّرة من "تفاقم الوضع الإنساني في حال استمر قصف أماكن الإيواء"، كما حمّلت مؤسسات حقوقية "إسرائيل" المسؤولية الكاملة عن هذه الجريمة التي لم تكن الأولى، لكنها واحدة من أبشع الجرائم بحق المدنيين.
التصعيد الإسرائيلي والمأزق السياسي
تأتي هذه المجزرة في وقت يشهد فيه ملف الهدنة تطورات متسارعة، فقد كشف مصدر فلسطيني مقرب من حركة "حماس" لصحيفة القدس العربي (26 مايو 2025)، أن الحركة وافقت على مقترح قدمه المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف، يتضمن وقف إطلاق النار لمدة 60 يومًا، مقابل إطلاق سراح 10 أسرى إسرائيليين، وانسحاب جزئي لقوات الاحتلال من قطاع غزة.
المقترح الأمريكي حظي بترحيب حذر، وخاصة من أطراف إقليمية مثل مصر وقطر، لكنه قوبل بعقبات كبيرة من الجانب الإسرائيلي، فبعدما لمح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى قرب التوصل إلى اتفاق، عاد وتراجع عن تصريحاته، قائلاً إن "المفاوضات لا تزال في بدايتها، ولا توجد نتائج ملموسة بعد".
ووفقًا لموقع "والا" العبري، فإن المبعوث الأمريكي ذاته نفى وجود موافقة فلسطينية نهائية، معتبرًا أن "رد حماس لا يزال دون المستوى المطلوب"، هذه التناقضات تعكس الفوضى داخل المنظومة السياسية الإسرائيلية، والانقسام بين المؤسسة العسكرية والمستوى السياسي حول جدوى استمرار الحرب، وخاصة في ظل الانتقادات الداخلية المتزايدة حول فشل الأهداف المعلنة للحرب، ومنها إنهاء حكم حماس أو إعادة الأسرى.
وتفيد تحليلات إسرائيلية بأن نتنياهو يسعى لتأجيل أي اتفاق حتى لا يُضطر لوقف العمليات العسكرية قبل أن يحقق ما يمكن وصفه بـ"النصر السياسي"، الأمر الذي يزيد من معاناة المدنيين الفلسطينيين، ويؤجج من الغضب الشعبي.
كارثة في ظل صمت دولي
الاعتداء على مدرسة فهمي الجرجاوي ليس حادثًا معزولًا، بل جزءاً من سلسلة طويلة من الانتهاكات التي طالت أكثر من 380 مدرسة ومنشأة تعليمية في غزة منذ بداية الحرب في أكتوبر 2024، حسب تقرير لمنظمة "أنقذوا الأطفال" نُشر في مايو 2025.
وتفيد تقارير الأمم المتحدة بأن أكثر من 1.3 مليون شخص نزحوا داخليًا نتيجة الحرب، يعيشون في ظروف بالغة القسوة داخل مدارس ومراكز إيواء مكتظة تفتقر لأبسط مقومات الحياة، كالمياه الصالحة للشرب والرعاية الطبية، وتعاني المستشفيات من نقص حاد في المعدات والأدوية، وسط حصار مشدد ومنع دخول المساعدات.
وحسب منظمة العفو الدولية، فإن "استهداف المرافق المدنية المحمية بموجب اتفاقيات جنيف، بما في ذلك المدارس، يرقى إلى جريمة حرب"، مشددة على ضرورة فتح تحقيق دولي عاجل، ومحاسبة المسؤولين عن المجازر بحق المدنيين.
كما تشير تقارير طبية ميدانية إلى ازدياد حالات الأمراض الجلدية والتهابات الجهاز التنفسي بين الأطفال داخل مراكز الإيواء، وهو ما يجعل من استمرار الحرب تهديدًا متصاعدًا للصحة العامة، يتطلب تدخلاً إنسانيًا عاجلاً لا يحتمل التأجيل.
إدانة شكلية ومواقف متباينة
فيما اقتصر رد الفعل الدولي على بيانات شجب تقليدية، أدانت الأمم المتحدة القصف ووصفته بأنه "غير مقبول ويجب التحقيق فيه"، بينما طالبت منظمات دولية كـ "هيومن رايتس ووتش" بتشكيل لجنة تقصي حقائق مستقلة، أما على المستوى العربي، فدانت كل من قطر ومصر والأردن القصف، داعية إلى وقف فوري للعمليات العسكرية، والعودة إلى طاولة التفاوض.
وفي الداخل الفلسطيني، نظمت مسيرات شعبية غاضبة في عدة مدن بالضفة الغربية وقطاع غزة، مطالبة بإنهاء الانقسام السياسي الفلسطيني وتعزيز الوحدة الوطنية لمواجهة "آلة الإبادة الإسرائيلية"، وفق تعبير أحد المتظاهرين في رام الله.
وأصدرت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بيانًا وصفت فيه المجزرة بأنها "إرهاب دولة منظّم"، مطالبة المجتمع الدولي بالتحرك العاجل، وداعية إلى تصعيد المقاومة بكل أشكالها.
جريمة لا يجب أن تمر مرور الكرام
تُعدّ مجزرة مدرسة فهمي الجرجاوي جرس إنذار جديد لحجم المأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في غزة، إن صمت المجتمع الدولي على هذا النوع من الجرائم يُفسَّر كضوء أخضر لمزيد من الانتهاكات، ويضعف من مصداقية النظام الدولي القائم على مبادئ حقوق الإنسان.
كما أن مواصلة قصف أماكن الإيواء يعني عمليًا تجريد المدنيين من أي مساحة آمنة، ويحوّل النزوح الإجباري إلى فخّ قاتل، وهو أمر يجب أن يتوقف فورًا، إن استمرار هذه السياسة من شأنه أن يدفع بمزيد من الانفجار الإقليمي، ويهدد استقرار المنطقة بأسرها.
ضرورة الملاحقة القانونية والضغط الدولي
إن الاستجابة الدولية للأحداث في غزة يجب أن تنتقل من الإدانات اللفظية إلى الأفعال، المطلوب اليوم هو تحرك دولي فاعل يقود إلى وقف فوري للعدوان، وإرسال بعثة دولية لحماية المدنيين، وضمان عدم تكرار الجرائم.
كما يتحتم على المنظمات الدولية توثيق الجرائم بدقة، ودعم الجهود القانونية الفلسطينية أمام محكمة الجنايات الدولية، بهدف محاسبة مرتكبي الجرائم، ووقف سياسة الإفلات من العقاب.
وأخيرًا، يجب إعادة تفعيل دور المجتمع المدني العربي والدولي، للضغط من خلال الحملات الحقوقية والإعلامية، لإبقاء القضية الفلسطينية حية في ضمير العالم، لأن معاناة أطفال غزة لا يجب أن تصبح أمرًا عابرًا في نشرات الأخبار.