الوقت - في مدينة تعافت بالكاد من مذبحة سريبرينيتسا، مدينة لا تزال جدرانها تتنفس التاريخ المثقل بالدموع، تستيقظ سراييفو مجددًا على نداء الضمير العالمي، لكن هذه المرة، الصوت القادم من الجنوب – من غزة – يُسمع صداه في الشمال الأوروبي، في جلسات محكمة شعبية غير مسبوقة، تحمل اسم "محكمة غزة"، وتتحدى بمنطق القانون والعدالة صمت العالم.
ما بين الـ 26 و29 من مايو/أيار الجاري، اجتمع في جامعة سراييفو الدولية حشد متنوع من الأكاديميين، والمفكرين، والحقوقيين، إلى جانب ممثلين عن منظمات مدنية وإعلاميين دوليين، في حدث استثنائي لا يندرج ضمن مؤسسات الدولة أو المحاكم الرسمية، بل يتجاوزها نحو محكمة ضمير شعبي هدفها: مساءلة "إسرائيل" عن جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وعلى رأسها جريمة الإبادة الجماعية في غزة.
المبادرة، التي انطلقت بدعم من منتدى شباب منظمة التعاون الإسلامي، تشكّل ردًا مباشرًا على عجز المؤسسات الدولية عن وقف المذبحة الجارية منذ أكتوبر 2023، والتي أسفرت عن أكثر من 176 ألف ضحية بين شهيد وجريح، معظمهم من الأطفال والنساء، مع آلاف المفقودين تحت الأنقاض.
في مداخلة افتتاحية لافتة، خاطب ريتشارد فالك، المقرر الأممي السابق لحقوق الإنسان في فلسطين، المشاركين بقوله: "الإبادة لم تعد خفية أو رمزية، بل أصبحت ملموسة، وموثقة بأدلة دامغة وشهادات حية"، وأضاف: "إسرائيل لم تعد تحاول إخفاء نواياها، بل تعبّر عنها بوضوح – سواء عبر التصريحات الرسمية أو من خلال الحصار الخانق المفروض على المدنيين في غزة، والذي يشمل حرمانهم من الغذاء، الدواء، والمأوى".
شهادات من قلب الألم
من القدس، انضم الناشط المخضرم جيف هالبر، الذي يرأس اللجنة المناهضة لهدم المنازل، ليؤكد أن ما نشهده هو "المرحلة الأخيرة من مشروع استعماري استيطاني، يسعى لإفراغ الأرض من الفلسطينيين وتحويلها إلى دولة يهودية بالكامل"، ويرى هالبر أن "محكمة غزة" لا تكتفي بتوثيق الجرائم، بل تضعها ضمن سياقها التاريخي والإيديولوجي، كأداة للهيمنة والإقصاء.
أما منسق المحكمة، أحمد كور أوغلو، فقد شدد على أن للمثقفين والمفكرين دورًا جوهريًا في كسر جدار الصمت، قائلًا: "نحن هنا لنُسمع العالم صوت غزة، ولندفع نحو تحرّك قانوني حقيقي، يبدأ من هذه الجلسات، ولا ينتهي إلا بفرض المساءلة".
مناقشات جريئة: الاقتصاد السياسي للإبادة
الجلسات لم تقتصر على عرض الشهادات، بل دخلت عميقًا في تحليل البنى التي تغذي العنف، من خلال حلقات نقاش حول "الاقتصاد السياسي للإبادة الجماعية"، "النظام العالمي في زمن التطهير العرقي"، و"جريمة التجويع كسلاح حربي".
في إحدى الجلسات، تناول خبراء علاقة النظام الرأسمالي بالأنظمة الاستعمارية الحديثة، متهمين الشركات الكبرى والدعم الغربي – وخاصة الأمريكي – بإطالة أمد المأساة، من خلال تمويل غير مباشر للآلة العسكرية الإسرائيلية، وتوفير غطاء دبلوماسي للجرائم.
بيان سراييفو… ومسودة إسطنبول
من المقرر أن تُختتم الجلسات في سراييفو بإعلان "بيان سراييفو"، الذي سيجمع خلاصات المناقشات والتوصيات بمشاركة كل الحضور، أما الخطوة التالية فستكون في إسطنبول، حيث تعقد المحكمة جلستها الختامية في أكتوبر المقبل، بحضور ضحايا وشهود، وشخصيات قانونية دولية، لعرض مسودة القرار النهائي.
المحكمة، رغم طابعها الرمزي، تسعى لتوثيق الجرائم وتحويلها إلى ملفات قانونية يمكن أن تُقدَّم لاحقًا للمحافل الدولية، مثل المحكمة الجنائية الدولية، كما ستتم محاكمة "إسرائيل" غيابيًا، ضمن صيغة قانونية وشكلية تحاكي المحاكم الدولية من حيث الإجراءات، لكنها تتجاوزها من حيث الجرأة والوضوح.
في غياب العدالة الرسمية… العدالة الرمزية تحاول
تأسست المحكمة في لندن عام 2024، كرد فعل على "فشل المجتمع الدولي الكامل في تطبيق القانون الدولي في غزة"، كما ورد في بيانها التأسيسي، وهي ليست بديلًا عن الهيئات القضائية الرسمية، لكنها تحاول أن تملأ الفراغ الناجم عن تعثر تلك المؤسسات، لأسباب سياسية، بيروقراطية، أو حتى تواطؤ ضمني.
البث المباشر… وأمل الشهود
لضمان الشفافية والوصول الجماهيري، تُبث جميع جلسات المحكمة مباشرة عبر الإنترنت، وهو ما يتيح للملايين حول العالم أن يشهدوا هذه اللحظة الفارقة من مساءلة رمزية لا تستهدف فقط مرتكبي الجرائم، بل أيضًا كل من يبررها أو يتواطأ معها بالصمت.
"محكمة غزة" ليست فقط محكمة ضد "إسرائيل"، بل هي محكمة تُحاكم التخاذل، النفاق، وازدواجية المعايير، وهي تصرخ باسم الضحايا: أطفال فقدوا أسرهم، أمهات انتشلن من تحت الركام، طلاب حُرموا من مدارسهم، وأطباء يعملون بلا كهرباء في أقبية المستشفيات.
في كل شهادة، تنبض غزة، وفي كل وثيقة تُكتب، يتحول الصمت إلى فعل مقاومة قانونية، وبهذه الروح، تواصل سراييفو استضافة لحظة نادرة من إنصاف رمزي، على أمل أن تتحول هذه الخطوة إلى بداية لتحرك قانوني فعلي يُعيد للعدالة كرامتها، وللإنسانية معناها.