الوقت - انعقدت الدورة الرابعة لانتخابات المجالس البلدية اللبنانية في ظل مناخ سياسي تتلاطم أمواجه بفعل المتغيرات الإقليمية المتسارعة، وتحت ظلال الحرب الضروس مع الكيان الصهيوني وتداعياتها الثقال، هذه الانتخابات التي وُصفت بأنها محك مصيري لمستقبل لبنان السياسي، اكتنفتها تعقيدات جمة وتحديات جسام، نتيجة الضغوط الداخلية والخارجية الهادفة إلى تقويض أركان حزب الله، بيد أن الحزب، مستنداً إلى قاعدته الشعبية الراسخة، استطاع أن يحقّق انتصاراً مؤزراً في هذه المعركة الانتخابية.
في هذا السياق، التقينا محمد رضا صادقي، خبير شؤون غرب آسيا، لاستجلاء أبعاد هذه الانتخابات وتداعياتها المرتقبة على مكانة المقاومة والمشهد السياسي اللبناني.
الوقت: وصفت الأوساط الإعلامية الانتخابات الأخيرة بأنها من أشدّ المنازلات السياسية ضراوةً في السنوات المنصرمة، ما سر هذه الأهمية البالغة التي اكتستها انتخابات البلديات في لبنان لحزب الله ومناوئيه؟
السيد محمد رضا صادقي: في أعقاب الأحداث الجسام التي عصفت بالمنطقة، تكالبت على حزب الله ضغوط هائلة من الداخل والخارج، في محاولة محمومة لاغتنام الفرصة واستثمار الظرف العصيب الذي يمرّ به الحزب على الصعيدين الأمني والعسكري بعد فقدان قادته الميامين، غير أن الانتخابات التي جرت مؤخراً، مثّلت في تقديري استفتاءً ثانياً کشف بجلاء أن الشعب اللبناني ما زال يقف صفاً واحداً خلف المقاومة، تجلى الاستفتاء الأول في مراسم تشييع السيد حسن نصر الله المهيبة التي هزت أركان المنطقة، أما الاستفتاء الثاني فتمثل في الحضور الطاغي لجماهير الشيعة والتيارات السياسية المتحالفة مع المقاومة، كالتيار الوطني الحر، التي أحرزت نصراً باهراً، وسنشهد الاستفتاء الثالث في الانتخابات البرلمانية القادمة.
تكتسي انتخابات البلديات أهميةً قصوى نظراً لدورها التنفيذي المحوري، ما يجعلها عنصراً فاصلاً في مسار إعادة الإعمار، تمارس القوى الخارجية حالياً ضغوطاً لا هوادة فيها لتحويل ملف إعادة الإعمار إلى ورقة ابتزاز للضغط على المقاومة، ساعيًة إلى ربط هذا الملف الحيوي بإحداث تغييرات جوهرية في بنية حزب الله، بيد أنني أرى أن المسار الراهن يسير في اتجاه إيجابي ينسجم مع الرؤية الاستراتيجية التي رسمتها المقاومة، سواء في مجال إعادة الإعمار أو في الميدان السياسي استشرافاً للانتخابات البرلمانية.
الوقت: ما الأسباب الكامنة وراء ظفر المقاومة بهذا النصر؟ وما الاستراتيجية التي انتهجها حزب الله في خوض غمار هذه المعركة الانتخابية، وما الرسالة التي أرادت الجماهير إيصالها عبر صناديق الاقتراع؟
السيد محمد رضا صادقي: عند استقراء مجريات الانتخابات ونتائجها، يتجلى لنا أن نسبة المشاركة في كل المناطق ذات الثقل الشيعي تجاوزت عتبة الـ 45 بالمئة، وهي نسبة تعدّ مؤشراً سياسياً بالغ الدلالة في المشهد اللبناني، وعلى الرغم من الاستثمارات الباذخة التي ضخّتها أطراف داخلية وخارجية لاستنبات كيانات شيعية مستقلة تناطح حزب الله وحركة أمل، طمعاً في اقتناص ولو مقعد واحد، إلا أن مساعيهم باءت بالإخفاق التام.
لقد سطعت في هذه الانتخابات روح الوفاء المتجذرة في نفوس الشيعة اللبنانيين، فحقّق حزب الله وحلفاؤه انتصاراً كاسحاً في جميع معاقل الوجود الشيعي، فمن بين 272 بلدية في جنوب لبنان، ظفرت لوائح المقاومة بـ 102 بلدية، ما يعكس انحياز الجماهير الجارف نحو المقاومة والأحزاب الشيعية العريقة.
الوقت: في ضوء المواقف المتشددة التي اتخذتها الحكومة ضد حزب الله في الآونة الأخيرة، ما انعكاسات هذه النتائج على المشهد السياسي الداخلي اللبناني ومكانة المقاومة في الساحة السياسية؟
السيد محمد رضا صادقي: كما أسلفت، مثّلت هذه الجولة الانتخابية استفتاءً حقيقياً استطاع فيه حزب الله، بحصده حصاداً وافراً من الأصوات، أن يصون قاعدته الشعبية الضاربة في عمق المجتمع اللبناني، وسيتكرر هذا الظفر في الانتخابات البرلمانية المقبلة، حيث ستبرهن الجماهير على المكانة الراسخة التي تحتلها المقاومة في قلوب اللبنانيين.
لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان أن هذه القاعدة الشعبية المتينة ستجعل مهمة الأعداء والمعارضين الداخليين أشدّ وعورةً، تماماً كما حدث في أعقاب مراسم تشييع السيد نصر الله حين خفتت حدة الضغوط والمواقف المناوئة للمقاومة، لذا، ستتراجع موجة الضغوط أيضاً بعد الانتخابات، وسيدرك المناوئون في الداخل والخارج حقيقةً راسخةً مفادها بأن الضغوط على حزب الله يجب ألا تتجاوز حدوداً معينةً، وبناءً على نتائج الانتخابات، ستضيق الخناق على المعارضين أنفسهم في المستقبل المنظور، بينما ستظل القاعدة الشعبية للمقاومة شامخةً راسخةً كالطود الأشمّ.
في تقديري، إن جانباً من مواقف جوزيف عون، بصفته رئيساً للجمهورية، المناهضة لحزب الله، إنما تنبع من الضغوط الهائلة التي تمارسها عليه الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وفرنسا، وقد تكون هذه المواقف منطقيةً للتخفيف من وطأة الضغوط الخارجية، لكنها تبقى في إطار المناورات التكتيكية، فالرئيس نفسه، بحكم سنوات قيادته للمؤسسة العسكرية، يدرك تمام الإدراك استحالة نزع سلاح المقاومة من حزب الله بضربة قاضية، كما يعي عجزه عن تأجيج نيران الفتنة الطائفية، فضلاً عن أن المعطيات الداخلية اللبنانية تقف سداً منيعاً أمام مثل هذه المحاولات.
لذلك، يدرك رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية أن لبنان يقف اليوم على أرضية من الاستقرار الهش، وأن التحالف الشيعي يملك من المقدرات ما يمكّنه من زعزعة هذا الاستقرار متى شاء، ونلحظ أن الأحزاب المسيحية، وفي طليعتها التيار الوطني الحر بقيادة جبران باسيل، الذي اتخذ في بواكير وقف إطلاق النار مواقف متباينة إزاء المقاومة، قد عاد ليجدّد تحالفه مع حزب الله وحركة أمل في هذه الانتخابات، وهذا يؤشر إلى إمكانية إعادة ترميم التحالف الذي تصدّع بعد وقف إطلاق النار، وإحياء ذلك التكتل القوي الذي كان تحت جناح المقاومة وحلفائها في السنوات الأخيرة، ما سيفضي حتماً إلى تعاظم تأثير تحالف المقاومة على مواقف الحكومة وسياساتها.
الوقت: إذن، هل يمكن القول إن هذا النصر الانتخابي سيمدّ المقاومة بأسباب القوة لتجاوز المحن الراهنة؟
السيد محمد رضا صادقي: لقد جاءت نتائج الانتخابات متساوقةً تماماً مع تطلعات حزب الله وآماله، وفي هذه المرحلة العصيبة التي تتكالب فيها الضغوط الداخلية والخارجية على المقاومة، شكّلت هذه الانتخابات استفتاءً شعبياً واستعراضاً مهيباً لقوة المقاومة وعمق جذورها في الأرض اللبنانية، ما سيفضي حتماً إلى تخفيف وطأة الضغوط على حزب الله، كما ستسهم في إعادة بناء قدرات هذه الحركة وترميم بنيتها في الساحات السياسية والاجتماعية والثقافية، وستنحسر بالتأكيد الضغوط الخارجية التي تستهدف حزب الله وتحاصره.
