الوقت- في خضم الفوضى التي تعصف بسوريا منذ أكثر من عقد، لا تزال الأقليات الدينية والطائفية تدفع أثماناً باهظة في صراع لا ناقة لها فيه ولا جمل، وبينما تركزت أنظار العالم سابقاً على معاناة الطائفتين العلوية والدروز، تشهد الساحة السورية حالياً فصلاً جديداً من القمع، هذه المرة ضد طائفة "المرشديين"؛ إحدى الطوائف المنبثقة عن العلويين والتي تشتهر بطابعها المسالم وابتعادها عن العمل السياسي والعسكري.
في المناطق الشمالية من البلاد، حيث تفرض جماعة مسلحة متشددة سيطرتها على الأرض والناس، يتعرض المرشديون لحملة ممنهجة من التضييق والاعتقال والقتل، في مشهد يطرح تساؤلات حادة حول مصير التعددية الطائفية في سوريا، ومستقبل التعايش الديني في ظل تصاعد وتيرة العنف الأيديولوجي.
طائفة منسية في مرمى القمع
المرشديون الذين يعيشون بأغلبيتهم في الساحل السوري، تحديداً في محافظتي اللاذقية وطرطوس، لطالما عرفوا بعزلتهم عن الصراع السوري المعقد، وحرصهم على عدم الانخراط في الصراع سواءً إلى جانب النظام أو ضده. إلا أن هذا الحياد لم يشفع لهم أمام آلة القمع المتصاعدة التي تتذرع بأي انتماء طائفي مخالف لتبرير الممارسات القمعية.
في الأيام الأخيرة، تصاعدت حملة الاعتقالات والمداهمات التي طالت عشرات من أبناء الطائفة، وسط اتهامات غير مثبتة بالولاء للنظام السوري السابق، وهي تهمة باتت تُستخدم ذريعة لإسكات أي صوت مغاير أو غير منسجم مع رؤية القوى المسيطرة في سوريا حالياً.
تزامناً مع هذه الحملة، تواردت أنباء عن مقتل عدد من أبناء الطائفة على يد عناصر مسلحة، ما أجبر كثيراً من العائلات على الفرار إلى مناطق أكثر أماناً، في تكرار لمأساة تهجير الأقليات السورية، ولكن هذه المرة بصمت أشد، نظراً لقلة التغطية الإعلامية وتسليط الضوء على هذه الفئة المنسية.
سقوط شعارات "العدالة" في مناطق المعارضة
ما يزيد من خطورة المشهد هو أن هذه الانتهاكات تجري في مناطق تُقدَّم للعالم على أنها "محررة" أو بديل محتمل عن النظام، وتُروَّج كمناطق تحترم الحقوق والحريات، غير أن الواقع على الأرض يقول عكس ذلك تماماً؛ إذ تُغلَق المراكز الثقافية، وتُمنَع الفعاليات الشبابية، ويُلاحق النشطاء والصحفيون تحت ذرائع متعددة، أبرزها "التحريض" أو "العمالة للخارج".
هذا التناقض الفج بين الخطاب السياسي الموجه للخارج، والممارسات القمعية اليومية في الداخل، يفضح هشاشة المشروع السياسي الذي تدعيه الجماعات المسيطرة، ويضع مستقبل هذه المناطق تحت علامة استفهام كبيرة، سواء من ناحية الاستقرار الداخلي أو من ناحية القبول الدولي.
صوت الضحايا في طي النسيان
اللافت في هذه الأزمة هو الغياب شبه الكامل لأصوات الضحايا في وسائل الإعلام أو المنصات الحقوقية، حيث يُمارَس التعتيم بشكل ممنهج، سواء عبر القمع المباشر أو الخوف من الانتقام، أبناء الطائفة المرشدية يعيشون في عزلة مزدوجة: الأولى جغرافية ناتجة عن تهجيرهم، والثانية إعلامية نتيجة تهميشهم، هذا التهميش لا يُسهم فقط في استمرار الانتهاكات، بل يمنح الجناة شعوراً بالإفلات من المحاسبة، ويؤكد الحاجة العاجلة لآليات توثيق محايدة تُعيد لهؤلاء الضحايا الحد الأدنى من الكرامة والاعتراف بوجودهم.
أزمة ثقة وشقوق داخلية
في ظل هذه الانتهاكات، تعاني الجماعة المسيطرة من تآكل شرعيتها حتى بين أنصارها، إذ باتت عاجزة عن إدارة شؤون المناطق الواقعة تحت سيطرتها، وسط تفاقم الأوضاع المعيشية، وارتفاع الأسعار، وغياب أي أفق سياسي واضح.
الأزمة لا تقف عند حدود العلاقة بين الجماعة والسكان المدنيين، بل تمتد إلى صراعات داخلية بين الفصائل نفسها، ما يهدد بنشوب مواجهات مسلحة جديدة داخل المعارضة، ويجعل من احتمال انهيار السلطة المحلية القائمة احتمالاً واقعياً.
في هذه الأجواء المشحونة، تزداد مخاطر التحول إلى نمط "حكم طائفي مسلح"، حيث تُحدد الحقوق والواجبات بناءً على الهوية المذهبية لا على الانتماء الوطني، ما يهدد بانهيار ما تبقى من النسيج الاجتماعي السوري.
المجتمع الدولي: قلق متزايد دون خطوات عملية
أمام هذه التطورات، عبّر المجتمع الدولي عن "القلق" إزاء ما يحدث للأقليات الدينية، ولكن دون أن يتجاوز هذا القلق عتبة البيانات والتصريحات، ورغم أهمية التنديد السياسي، فإن غياب الإجراءات الملموسة يجعل من هذه الإدانات غير مجدية، بل يوفر غطاءً غير مباشر لاستمرار الانتهاكات.
المعضلة تكمن في أن الوضع الإنساني المتدهور لم يعد يحتمل التأجيل أو التعامل معه كقضية ثانوية في الأجندة الدولية، فممارسات القمع الطائفي والقتل على الهوية لا تنتهك فقط حقوق الإنسان، بل تؤسس لجولات مستقبلية من العنف، يصعب السيطرة عليها بمجرد اندلاعها.
جرائم لا تسقط بالتقادم
من منظور القانون الدولي، ما يحدث من استهداف ممنهج لطائفة المرشديين على خلفية انتمائها الديني يدخل في نطاق الجرائم ضد الإنسانية، فعمليات القتل والاعتقال التعسفي القائمة على الهوية تشكّل انتهاكاً صارخاً للاتفاقيات الدولية، ولا تسقط بالتقادم، ما يعني أن مرتكبيها قد يواجهون المحاسبة يوماً ما، مهما طال الزمن.
لكن الواقع يُظهر أن الإفلات من العقاب لا يزال هو القاعدة في الملف السوري، ما يجعل الضحايا كطائفة المرشديين مجرد أرقام في تقارير حقوقية، دون أن يتحول ذلك إلى حماية فعلية لهم أو محاسبة حقيقية لجلاديهم.
في النهاية يمكن القول إن التعددية في خطر وما يتعرض له المرشديون اليوم ليس مجرد حادثة معزولة، بل هو مؤشر خطير على تصدع مفهوم التعددية في سوريا، وتحول الهوية الدينية إلى سبب للاضطهاد لا عنصراً للثراء الثقافي والاجتماعي.
وإذا استمرت هذه السياسات الطائفية دون تدخل جدي من المجتمع الدولي، فإن مستقبل سوريا كدولة تضم طوائف وأديان متعددة سيكون على المحك. وفي نهاية المطاف، سيكون الشعب السوري، بكل مكوناته، هو الخاسر الأكبر في معركة أصبحت فيها الهوية لعنة، والانتماء جريمة، والصمت موتاً بطيئاً.