الوقت- في خضم تأجّج الخلاف بين الحكومة المركزية في بغداد وإقليم كردستان حول إبرام اتفاقيات الطاقة مع كيانات أجنبية، تنبري الولايات المتحدة في مسعى دؤوب لتصوير منابت هذه الخلافات لا في النسيج السياسي العراقي أو تضارب المصالح الداخلية، بل في الحضور الإيراني المتنامي في العراق.
وفي هذا المضمار، وبالتزامن مع المباحثات الإيرانية الأمريكية بشأن التوصل إلى تفاهم حول الملف النووي، تصاعدت نبرة الخطاب الأمريكي ضد طهران، فقد أفصح ماركو روبيو، وزير الخارجية الأمريكي، يوم الأربعاء (21 مايو) خلال جلسة استماع للجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب قائلاً: “لقد استشرى النفوذ الإيراني في العراق بصورة جلية وتغلغل في أركان الدولة، ما يشكّل خطراً محدقاً بالمصالح الأمريكية”.
وزعم روبيو: “يتجلى هذا الأمر في مواقف الفصائل التي سبق أن شنت هجماتها على المصالح الأمريكية في العراق، والتي تتأهب الآن لتكرار مسعاها”، كما شدّد روبيو على أن “العراق يجب أن يصون كيان إقليم كردستان، وأن يبدي احتراماً تاماً للشركات الأمريكية التي تباشر أعمالها في هذه المنطقة”.
ما خفايا المشهد وأسراره؟
تكمن وراء تصريحات مسؤولي البيت الأبيض المستجدة ضد العلاقات الإيرانية-العراقية، امتيازات عقد طاقة ضخم أبرمته شركات أمريكية مع قيادات حكومة إقليم كردستان العراق، وبعد انكشاف هذا العقد، أطلقت الحكومة المركزية في بغداد سهام النقد تجاه هذا التصرف الأحادي من أربيل، وعليه، يتجلى أن الهجوم السياسي غير المباشر من واشنطن ضد الحكومة المركزية العراقية، هو في حقيقة الأمر محاولة لصرف أنظار الرأي العام عن المرامي الجيوسياسية الأمريكية للاستحواذ على منابع الطاقة العراقية، بينما تعود جذور القضية إلى التنافس المحموم على الموارد والنفوذ في المنطقة.
وفي هذا السياق، أدلى إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية ورئيس مركز التفكير السياسي، بتصريحات جاء فيها: “تذهب أمريكا إلى الاعتقاد بأن النفوذ الإيراني يقف حجر عثرة أمام تطور العلاقات بين بغداد وأربيل، ويسعى لعرقلة تنفيذ الاتفاقيات الأخيرة بين حكومة إقليم كردستان والشركات الأمريكية، وخاصةً في قطاع الطاقة، وهو ما يهدّد المصالح الأمريكية”.
تسعى الولايات المتحدة من خلال كيل الاتهامات لإيران، إلى طمس تدخلها السافر في الخلافات الداخلية العراقية، وتصوير إبرام هذه الاتفاقيات كمسعى يفضي إلى ترسيخ دعائم الاستقرار، وتمثّل هذه السياسة الإعلامية والدبلوماسية جزءاً من استراتيجية واشنطن بعيدة المدى لتقويض المكانة الإقليمية لإيران، ونزع الشرعية عن دورها في مجريات الأحداث العراقية.
في حين أن جوهر الأزمة يعود في واقع الأمر إلى خلافات قانونية وبنيوية بين أربيل وبغداد حول سبل إدارة الثروات الطبيعية وصلاحية إبرام العقود الخارجية، وهو خلاف متجذر في القراءات المتباينة للدستور العراقي، ومع ذلك، تسعى أمريكا، متجاهلةً الخلفيات الداخلية، للاستفادة من الشرخ بين بغداد وأربيل وتحويله إلى سلاح مشهر في وجه إيران.
جاءت تصريحات روبيو في أعقاب إعلان وزارة النفط العراقية الثلاثاء المنصرم رفضها لتوقيع اتفاقيات بين حكومة الإقليم والشركات الأمريكية في قطاع الطاقة، التي جرت مراسم توقيعها في واشنطن، ورداً على ذلك، أفادت وزارة الموارد الطبيعية في الإقليم بأن هاتين الاتفاقيتين مع شركتي HKN وWesternZagros ليستا حديثتي العهد، وقد سبق أن أقرتهما المحاكم العراقية ولا تشوبهما أي شائبة قانونية.
أعلنت حكومة أربيل أنها أبرمت عقوداً مع عدة شركات أمريكية عملاقة للاستثمار في حقلي الغاز “ميران وتوبخانة-كردمير”، وتُقدر القيمة الإجمالية لهاتين الاتفاقيتين بعشرات المليارات من الدولارات، وقد وُقِّعتا بغية تطوير قطاع النفط والطاقة في إقليم كردستان وتدعيم بنيته التحتية الاقتصادية.
في المقابل، وصفت وزارة النفط العراقية هذه العقود بغير القانونية، مؤكدةً أن إدارة موارد النفط والغاز وفقاً للدستور وأحكام المحكمة الاتحادية العليا، تندرج حصراً ضمن صلاحيات الحكومة المركزية، وشددت الوزارة على أن الثروات الطبيعية ملك للشعب العراقي قاطبةً، وأن أي استثمار ينبغي أن يجري من خلال الحكومة المركزية وبشفافية تامة لصون المصالح الوطنية.
يمثّل الخلاف حول إدارة هذين الحقلين، امتداداً للتوترات المستحكمة بين بغداد وأربيل بشأن السيطرة على الموارد الطبيعية، ويرى إقليم كردستان أن له الحق في إبرام عقود مباشرة مع الشركات الأجنبية، بينما تعده الحكومة الفيدرالية خرقاً للدستور وقوانين البلاد.
لقد أفضى هذا الخلاف القانوني والسياسي بين أربيل وبغداد مراراً إلى توترات داخلية وتعطيل مشاريع الطاقة الحيوية، وقد امتدت القضية إلى المحافل القضائية الداخلية والدولية، وفي السنوات الأخيرة، أعلنت المحكمة الاتحادية العليا في العراق بصريح العبارة أن إجراءات الإقليم في إبرام عقود مستقلة، تفتقر إلى السند القانوني، علاوةً على ذلك، في القضايا المطروحة أمام هيئات التحكيم الدولية، صدرت عدة أحكام لمصلحة الحكومة المركزية في بغداد تؤكد حقها الحصري في إدارة موارد الطاقة في البلاد.
يقع حقل "ميران" الغازي غرب مدينة السليمانية، قرب الحدود الإيرانية، وقد اكتشفته شركة جنل إنرجي، ويُقدر الغاز القابل للاستخراج فيه بنحو 11.2 تريليون قدم مكعب، فيما يُقدر إجمالي الغاز المختزن في المكمن بـ 22 تريليون قدم مكعب.
أما حقل توبخانة-كردمير الغازي فيحوي غازاً قابلاً للاستخراج يتراوح بين 4 إلى 6 تريليونات قدم مكعب، ويتراوح الغاز القابل للاستخراج في هذين الحقلين بين الـ 15 إلى الـ 17 تريليون قدم مكعب، بينما تُقدر الاحتياطيات الإجمالية (بما في ذلك الغاز غير القابل للاستخراج) بنحو 28 تريليون قدم مكعب.
وعليه، يُعد هذان الحقلان الغازيان كنزاً استراتيجياً للعراق، وفي حال استثمارهما بصورة مثلى، يجسّدان أملاً حقيقياً لتعزيز إنتاج الغاز والارتقاء بقطاع الطاقة في هذا البلد، غير أن النجاح في هذا المضمار يستلزم توافقاً سياسياً وقانونياً بين بغداد وأربيل، لصون حقوق جميع الأطراف وتحقيق تنمية مستدامة.
مآرب أمريكا من الاستيلاء على طاقة العراق
لطالما اتسمت سياسات الولايات المتحدة في ميدان الطاقة، بسعيها الدؤوب للسيطرة على الموارد الطبيعية للدول الأخرى واستغلالها اقتصادياً وسياسياً، هذا النهج الذي يمكن وصفه بنهب ثروات الطاقة يتجلى بوضوح ولا سيما في غرب آسيا، والعراق يُعد أحد المسارح الرئيسية لتنفيذ هذا المخطط.
في السنوات الأخيرة، تحوّل توقيع اتفاقيات الغاز بين الشركات الأمريكية وإقليم كردستان، إلى أحد محاور التوتر والتحولات المحورية في مجال الطاقة بغرب آسيا، تُبرم هذه الاتفاقيات في ظاهرها بغية تطوير البنية التحتية للطاقة في الإقليم، بيد أن التمحيص الدقيق لأبعادها السياسية والاقتصادية والجيوسياسية، يكشف أن مقاصد أمريكا الخفية تتجاوز بمراحل مجرد التعاون الاقتصادي.
تبتغي الولايات المتحدة من وراء توقيع هذه الاتفاقيات بسط سيطرتها على مكامن الغاز الطبيعي العراقية، وخاصةً في المناطق الثرية بالإقليم، تختزن حقول “ميران” و"توبخانة-كردمير" احتياطيات هائلة من الغاز يمكن أن تحول العراق إلى أحد اللاعبين الرئيسيين في سوق الطاقة الإقليمية، وبالتالي، فإن أمريكا بتوسيع رقعة وجود شركاتها في هذه الحقول، تستحوذ عملياً على أحد أهم مصادر الطاقة المستقبلية للعراق.
كما أن ولوج الشركات الأمريكية إلى مشاريع البنية التحتية للطاقة في الإقليم، يرسي دعائم التبعية التكنولوجية والإدارية التي يمكن أن تُحدث تحولاً في موازين القوى في العراق لمصلحة واشنطن على المدى البعيد، الغاية القصوى من هذه الاستراتيجية ليس فقط الهيمنة على موارد الطاقة، بل أيضاً التأثير في صناعة القرار السياسي العراقي، وتقويض سلطة الحكومة المركزية، والتحكم في شبكة العلاقات الاقتصادية والأمنية لهذا البلد مع الخارج.
وهكذا، فإن أمريكا باستحواذها على موارد الطاقة العراقية، تُحقق مآربها الاقتصادية وتعزز موقعها الجيوسياسي في المنطقة، من منظور واشنطن، فإن إيجاد لاعب شبه مستقل في مجال الطاقة، أي الإقليم، سيفاقم الضغط على بغداد ويحول دون تشكل حكومة مركزية راسخة ومستقلة، وخاصةً إذا كانت هذه الحكومة تميل نحو الصين أو روسيا أو إيران.
علاوةً على ذلك، فإن كبح جماح نفوذ المنافسين العالميين لأمريكا، وخاصةً الصين وروسيا في ميدان الطاقة العراقية والمنطقة، يُعد أحد المرامي الكبرى لواشنطن، فقد ضخّت الصين خلال السنوات الأخيرة استثمارات طائلة في مشاريع الطاقة العراقية، وخاصةً في جنوب البلاد، كما كانت روسيا فاعلةً في الإقليم من خلال شركات مثل “روسنفط”، وتمثّل الاتفاقيات الأخيرة بين واشنطن والإقليم، رداً مباشراً على تنامي نفوذ هؤلاء المنافسين الجيوستراتيجيين.
ومن هنا، فإن الولايات المتحدة بإدخال شركاتها إلى قطاع الطاقة في الإقليم، تضيق الخناق على مساحة وجود منافسيها الجيوسياسيين، وتغتنم في الوقت نفسه فرصة تصدير غاز المنطقة إلى أوروبا كبديل للغاز الروسي، وبالتالي، فإن توقيع اتفاقيات الغاز هذه ليس سوى حلقة في سلسلة استراتيجية أمريكا طويلة المدى للحفاظ على هيمنتها في غرب آسيا، والاستحواذ على موارد الطاقة، وكبح جماح المنافسين.
يجري هذا في وقتٍ لا تزال فيه أمريكا تبسط سيطرتها على مكامن النفط والغاز في الرقعة الشمالية الشرقية من سوريا، ويتيح الجمع بين هذين الموقعين الاستراتيجيين لواشنطن، إنشاء محور طاقة مستقل عن الحكومات المركزية في بغداد ودمشق، واستخدامه كورقة ضغط ونفوذ في المعادلات السياسية الإقليمية.
وفي المحصلة، لا يُنظر إلى توقيع اتفاقيات الغاز بين واشنطن وإقليم كردستان كمجرد إطار للتعاون الاقتصادي، بل كحلقة في سلسلة استراتيجية أمريكا الشاملة للهيمنة على الموارد الاستراتيجية في العراق، وكبح جماح النفوذ المتصاعد للمنافسين العالميين في المشهد الجيوسياسي للمنطقة، وبما أن الطاقة تمثّل منبعاً للثروة وأداةً للهيمنة في آن واحد، فإن هذه الاتفاقيات تشكّل سلاحاً لإعادة رسم خارطة توازن القوى في غرب آسيا.