الوقت- منذ أكثر من سبعة أشهر، يعيش قطاع غزة في جحيم يومي لم يسبق له مثيل في التاريخ المعاصر، حيث يتعرض أكثر من مليوني نفس بشرية لحرب شاملة لا تقتصر على القنابل والصواريخ، بل تمتد إلى الخبز والماء والدواء، فبعد أن مزّقت آلة الحرب الإسرائيلية البنية التحتية للقطاع، وشرّدت مئات الآلاف من منازلهم، ها هي اليوم تستخدم سلاحًا جديدًا في معركتها: الجوع الممنهج.
غزة، التي كانت من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، باتت اليوم رسميًا – حسب تقارير الأمم المتحدة – أكثر مكان جوعًا في العالم، لا لأن الطبيعة قست عليها، ولا لأن مواردها نضبت بفعل الكوارث، بل لأن دولة الاحتلال اختارت التجويع كوسيلة للإبادة والتهجير، ضمن خطة معلنة أو مضمرة لتفريغ القطاع من سكانه، تحت غطاء الحرب على "حماس"، بينما الضحايا الحقيقيون هم النساء والأطفال والمسنون والمدنيون العزل.
سياسة التجويع: سلاح الإبادة الجديد
منذ الـ 7 من أكتوبر 2023، تشن "إسرائيل" عدوانًا غير مسبوق على قطاع غزة، استخدمت فيه كل وسائل التدمير، لكن مع بداية مارس 2025 دخلت الحرب طورًا جديدًا، حيث تم إغلاق جميع المعابر بشكل كامل، ومنع دخول أي مساعدات غذائية أو طبية أو وقود، ما أدى إلى توقف عمل المستشفيات والمخابز ومحطات المياه وحتى المطابخ الخيرية التي كانت تشكل شريان الحياة الوحيد لعشرات الآلاف.
تقرير التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي الصادر حديثًا عن الأمم المتحدة، يقر بأن 470 ألف شخص في غزة يواجهون ما يسمى "الجوع الكارثي" – وهي المرحلة الخامسة والأخطر من تصنيفات الأمن الغذائي، أي أنهم يواجهون خطر الموت جوعًا، هذه النسبة شهدت ارتفاعًا بنسبة 250٪ خلال أشهر قليلة فقط، ما يؤكد أن الوضع يتدهور بوتيرة مرعبة.
جوع الأطفال والأمهات: الضحية الأولى لسياسة الحصار
المأساة في غزة لا تقتصر على شح الغذاء، بل تمتد إلى سوء التغذية الحاد الذي يهدد مستقبل الأجيال، وفق التقرير ذاته، فإن أكثر من 71 ألف طفل و17 ألف أم يحتاجون إلى علاج فوري من سوء التغذية، في حين تشير تقديرات منظمة اليونيسف إلى أن الأعداد في ازدياد مستمر، وسط تحذيرات من انهيار الخدمات الصحية تمامًا.
وفي ظل استمرار الحصار، أعلنت منظمات دولية كبرنامج الأغذية العالمي واليونيسف نفاد مخزوناتها الغذائية والصحية بالكامل، فقد توقفت المخابز الـ25 المدعومة بالطحين والوقود، ما جعل العائلات تعجز عن تأمين رغيف الخبز، وبدأت أعراض المجاعة الحقيقية تظهر: أطفال بوجوه شاحبة، بطون منتفخة، وعيون غائرة، وصرخات ألم لا تجد من يستجيب.
ما وراء الحصار: التهجير كهدف استراتيجي
بعيدًا عن الذرائع الأمنية التي تسوقها "إسرائيل" لتبرير حصارها الوحشي، فإن الهدف الحقيقي واضح لكل من يريد أن يرى، دفع السكان نحو الاستسلام أو الرحيل، سياسة التجويع الجماعي لم تأتِ بمحض الصدفة، بل تندرج في إطار خطة مدروسة للتهجير القسري، تستكمل مسار النكبة المستمرة منذ 1948.
التحذيرات الصادرة عن منظمات الأمم المتحدة، ومنها منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، جاءت صريحة: "يجب استعادة الوصول الإنساني فورًا ورفع الحصار المفروض على غزة"، محذرة من انهيار الزراعة، وانتشار أوبئة مميتة، وانفجار الوضع بشكل يهدد وجود أكثر من 2.1 مليون إنسان في القطاع.
وحسب المديرة التنفيذية لليونيسف، كاثرين راسل، فإن "خطر المجاعة لا يأتي فجأة"، بل هو نتيجة "سياسات ممنهجة تمنع الوصول إلى الغذاء وتدمر الأنظمة الصحية"، كلمات صادقة تكشف أن ما يحدث في غزة ليس كارثة طبيعية بل جريمة مكتملة الأركان.
ازدواجية المعايير الدولية: صمت مُريب على جريمة إبادة
المفارقة المريرة أن العالم، رغم توافر الأدلة والتقارير والتحذيرات، يواصل التفرج بصمت على ما يمكن اعتباره جريمة إبادة جماعية بطيئة، الدول الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، لا تزال تمد "إسرائيل" بالسلاح والغطاء السياسي، في حين تعجز الأمم المتحدة عن فرض ممرات آمنة للمساعدات، أو حتى إصدار قرار ملزم بوقف الحصار.
إن التجويع في غزة هو أداة ضغط سياسي وعسكري، وليس مجرد نتيجة عرضية لحرب، فـ"إسرائيل"، كما كشفت تقارير صحفية واستقصائية، تستخدم سلاح الحصار لتطويع الشعب الفلسطيني، أو دفعه نحو الرحيل الجماعي، في سابقة خطيرة تعيد إلى الأذهان أسوأ فصول التاريخ الحديث من جرائم التطهير العرقي.
نحو العدالة الإنسانية: ضرورة رفع الحصار فورًا
لا يمكن لمجتمع إنساني يدعي احترام الكرامة البشرية أن يقف مكتوف الأيدي أمام أطفال يموتون جوعًا، أمام أمهات يرضعن من دموعهن بدل الحليب، وأمام شعب بأكمله يُحاصر لأنه يرفض الركوع، إن رفع الحصار عن غزة ليس مطلبًا إنسانيًا فقط، بل هو واجب أخلاقي وقانوني يجب أن تتحرك من أجله الشعوب الحرة، والمنظمات الحقوقية، وكل من بقي في ضميره حي.
المأساة لم تنتهِ، بل هي في أوجها، والتاريخ لن ينسى أن غزة جاعت بينما كان العالم يعرف – ويصمت، فهل نتحرك قبل فوات الأوان؟ أم سنكتب فصلاً جديدًا في كتاب الإبادة الجماعية الموقعة بصمت المتحضرين؟
الوقت ينفد... والضمير العالمي في اختبار مصيري.