الوقت- شهدت الساحة الإقليمية خلال الأيام الماضية تصعيداً ملحوظاً في التوتر بين اليمن والكيان الإسرائيلي، في تطور غير مسبوق يعكس تغيرًا جذريًا في قواعد الاشتباك ومعادلات الصراع في الشرق الأوسط، فقد أعلن المتحدث الرسمي باسم القوات المسلحة اليمنية، العميد يحيى سريع، عن تنفيذ عملية عسكرية نوعية استهدفت العمق الإسرائيلي باستخدام صاروخ باليستي فرط صوتي من طراز "فلسطين 2"، في عملية وُصفت بأنها الأكثر جرأة منذ بدء التصعيد اليمني على خلفية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. وتزامن هذا الاستهداف مع إطلاق طائرات مسيرة هجومية باتجاه مواقع عسكرية في أراضي فلسطين المحتلة، ما أسفر عن إطلاق صفارات الإنذار في مناطق واسعة شملت تل أبيب والقدس المحتلة وعشرات المستوطنات الأخرى، في مشهد أربك المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية.
الرد اليمني جاء في إطار موقف ثابت ومعلن لدعم الشعب الفلسطيني، وإسناداً لخيار المقاومة في غزة، واحتجاجاً على الجرائم المرتكبة من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وخاصة في ظل صمت دولي وعجز المؤسسات الأممية عن اتخاذ موقف حازم تجاه ما يتعرض له القطاع من حصار وتجويع واستهداف ممنهج للمدنيين، وفي تصعيد إضافي، أعلنت صنعاء عن فرض حظر شامل على الملاحة الجوية من وإلى الكيان الإسرائيلي، مؤكدة أن أي طائرة ستخرق هذا القرار ستكون هدفًا مشروعًا للقوة الصاروخية اليمنية، في إشارة إلى رفع سقف المواجهة المباشرة مع الاحتلال.
في المقابل، عبّرت وسائل إعلام إسرائيلية عن حالة من القلق والانزعاج الشديد من القدرات اليمنية المتطورة، معتبرة أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية وقعت في خطأ استراتيجي حين قللت من شأن اليمن ولم تدرجه ضمن قائمة التهديدات الإقليمية، وهو ما أشار إليه تقرير لصحيفة "معاريف" العبرية التي وصفت اليمن بـ"العدو غير المتوقع" القادر على تنفيذ عمليات دقيقة وبعيدة المدى دون أن تتمكن تل أبيب من ردعه أو اعتراض هجماته بفاعلية.
وإزاء فشل خيارات الردع العسكري، لجأ الكيان الإسرائيلي إلى التلويح باللجوء إلى عمليات اغتيال تطال قيادات في حركة أنصار الله، على رأسهم السيد عبد الملك الحوثي، في محاولة لخلق توازن ردع عبر الاستهداف النوعي، هذا التهديد اعتبره محللون تعبيرًا عن مأزق استراتيجي عميق يعيشه الكيان في ظل اتساع جبهات المواجهة وتعدد الفاعلين المناهضين له على امتداد الإقليم.
في قراءة معمقة لهذا التصعيد، يتضح أن اليمن لم يعد ذلك الطرف الهامشي في معادلة الصراع، بل بات لاعباً إقليمياً فاعلًا، استطاع أن يفرض معادلات ردع جديدة باستخدام أدواته العسكرية، وبتكلفة منخفضة مقارنة بالإمكانيات العسكرية الهائلة التي ينفقها الكيان الإسرائيلي على منظومات الدفاع الجوي مثل "القبة الحديدية" و"حيتس" وغيرها، كذلك، يعكس الهجوم اليمني تطورًا نوعيًا في القدرات الصاروخية والمسيرة، حيث تمكنت من اختراق الدفاعات الجوية والوصول إلى أهدافها بدقة.
وما يزيد من تعقيد المشهد بالنسبة لتل أبيب، أن الضربات اليمنية لم تكن ذات طابع رمزي أو محدود، بل ترافقت مع رسائل سياسية مباشرة بأن صنعاء لن تقف مكتوفة الأيدي أمام الجرائم الإسرائيلية في غزة، وأنها ترى نفسها جزءًا من محور المقاومة الذي يواجه المشروع الصهيوني في المنطقة، وقد عزز هذا الموقف دعم شعبي واسع داخل اليمن، حيث تخرج مظاهرات أسبوعية تؤكد تضامن الشارع اليمني مع الفلسطينيين، وتطالب القيادة السياسية بمواصلة الضغط على الكيان بكل الوسائل الممكنة.
إن طبيعة الرد الإسرائيلي، سواء من خلال التهديدات أو عبر محاولات تحشيد الدعم الأمريكي والغربي، أو تنفيذ ضربات داخل اليمن مثل الذي قام بها على ميناء الحديدة وبعض المنشآت الحیویة فی الیمن تعكس حالة من الإرباك الاستراتيجي، إذ لم تعد "إسرائيل" قادرة على حصر المواجهة داخل نطاق جغرافي محدود كما كان الحال سابقًا، بل إن تعدد الساحات – يشير إلى تحول جوهري في طبيعة التهديدات التي تواجهها، الأمر الذي يستدعي مراجعة عميقة لعقيدتها العسكرية والأمنية.
من جانب آخر، فإن الموقف اليمني الراهن يمثل تطورًا لافتًا في السياق الإقليمي، إذ يضع صنعاء في موقع متقدم ضمن خارطة الصراع العربي-الإسرائيلي، ويمنحها دورًا سياسيًا وعسكريًا يعيد تشكيل طبيعة التحالفات الإقليمية، هذا التقدم يأتي رغم الحصار والحرب التي تعرض لها اليمن منذ 2015، ما يعكس قوة الإرادة السياسية والعسكرية لقيادته، وقدرتها على بناء منظومة ردع فعالة خارج سياقات الدعم الدولي أو التحالفات الكبرى.
في الخلاصة، فإن ما يجري بين اليمن والكيان الإسرائيلي ليس مجرد تبادل للرسائل العسكرية، بل هو مؤشر على ولادة مشهد استراتيجي جديد في المنطقة، تكون فيه أطراف المقاومة قادرة على نقل المعركة إلى قلب الكيان، وتحويل خطوط المواجهة من غزة وحدها إلى جبهات متعددة يصعب السيطرة عليها، هذا التحول يفرض على الكيان الإسرائيلي واقعًا جديدًا قد لا يكون مستعدًا للتعامل معه، في ظل تآكل قدرته على الردع وانكشاف جبهته الداخلية.
يبقى على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤولياته القانونية والإنسانية تجاه ما يجري، ولا سيما في قطاع غزة، الذي يعاني من أوضاع إنسانية كارثية، كما أن تجاهل التحذيرات المتكررة من القوى الإقليمية، ومنها اليمن، سيقود بالضرورة إلى مزيد من التصعيد الإقليمي الذي لن يكون من السهل احتواؤه، وخاصة إذا استمرت "إسرائيل" في اعتماد منطق القوة بدلًا من احترام حقوق الشعوب في تقرير مصيرها.