الوقت - بينما تهتزّ وسائل الإعلام العالمية على وقع اعترافات جنود بريطانيين بارتكاب مجازر مروّعة بحق المدنيين في أفغانستان، تعود ملفات دامية من تاريخ الاحتلال الغربي إلى الواجهة، في وقت أكدت فيه حركة طالبان أن تلك الجرائم لم تكن استثناءً، بل قاعدة ثابتة لكل من وطأت قدمه أرض أفغانستان تحت راية الاحتلال، سواء كان أمريكيًا، بريطانيًا، أستراليًا أو سوفييت.
ففي بيان رسمي صريح، شدد حمدالله فطرت، معاون المتحدث باسم حكومة طالبان، على أن الشعب الأفغاني لم يكن ضحية القوات البريطانية فقط، بل وقع فريسة متواصلة لسلسلة احتلالات دمّرت البلاد وشرّدت وقتلت الآلاف دون أي مساءلة دولية حقيقية.
وقال فطرت: "كل القوى الأجنبية التي غزت أفغانستان خلال العقدين الماضيين، بلا استثناء، ارتكبت جرائم حرب موثقة في حق الشعب الأفغاني، ولم يكن الاحتلال البريطاني سوى وجه آخر لنفس المشروع الدموي الذي قادته أمريكا وشاركت فيه أستراليا ودول غربية وشرقية أخرى".
سجل دموي مشترك: من الأمريكان إلى الأستراليين
في حين تركزت الأنظار مؤخرًا على الاعترافات البريطانية، فإن ملفات الجرائم الأمريكية في أفغانستان تملأ تقارير المنظمات الحقوقية الدولية.
من مذبحة "قندهار" عام 2012، التي نفذها جندي أمريكي وقتل فيها 16 مدنيًا بينهم نساء وأطفال، إلى القصف العشوائي لحفلات زفاف ومجالس عزاء بطائرات من دون طيار، لا تزال الذاكرة الشعبية الأفغانية تحفل بشواهد الموت الذي كان ينهال من السماء بلا رحمة.
القوات الأمريكية، وفق شهادات وشواهد ميدانية، مارست سياسة "القتل الاستباقي"، حيث جرى استهداف مزارعين، رعاة، وأطفال، تحت شبهة الانتماء لطالبان، كل ذلك في ظل حصانة قانونية كاملة وفّرها الاحتلال الأمريكي لجنوده، ما منع ملاحقة أي منهم حتى بعد الانسحاب.
أما القوات الأسترالية، فقد سُجّلت في حقها انتهاكات بشعة لم تخرج إلى العلن إلا قبل سنوات قليلة، عندما نشر تحقيق استقصائي أدلة مصوّرة على إعدام أسرى عُزّل من قبل قوات النخبة الأسترالية خلال عمليات ميدانية، إحدى الصور أظهرت جنديًا أستراليًا يقتل طفلًا أفغانيًا بدم بارد، فيما اكتفى الإعلام الغربي بوصف الحادثة بـ"تجاوز فردي".
وقال عبداللطيف سجادي، الكاتب والصحفي الأفغاني، إن كل هذه الاعترافات، مهما بدت مفاجئة للغرب، ليست سوى غيض من فيض جرائم الاحتلال التي توارثها الغزاة، من الأمريكيين إلى البريطانيين، ومن السوفييت إلى الأستراليين.
أضاف في حوار مع وكالة "إرنا": "روسيا قبل الجميع، ومنذ اجتياحها لأفغانستان في 1979، ارتكبت جرائم إبادة ممنهجة بحق المدنيين، وقصفت القرى بالكيماوي والمدافع الثقيلة، وشرّدت ملايين الأفغان داخل البلاد وخارجها، وما فعله الاحتلال السوفييتي لا يقل فتكًا عما ارتكبه الغرب في العقدين الماضيين".
طالبان: لا تسامح مع من أراق الدماء
في ظل هذا السجل الحافل بالانتهاكات، شددت حكومة طالبان على أن العدالة لن تتحقق بمحاكمات صورية أو اعترافات استهلاكية، بل بمحاسبة شاملة وجدية لكل من أمر ونفذ وغطّى هذه الجرائم، بما يشمل القادة السياسيين والعسكريين في الغرب والشرق على السواء.
وقال فطرت: "الشعب الأفغاني لن ينسى، ولن يغفر، ولن يسمح بتكرار هذه المآسي، إن الخروج النهائي للقوات الأجنبية لا يعني نهاية المساءلة، بل بداية المطالبة الحقيقية بحقوق الضحايا وغسل العار الذي تركوه خلفهم".
أين العدالة؟
حتى اليوم، لم تُنشأ أي محكمة دولية خاصة بجرائم الحرب في أفغانستان، رغم أن عشرات آلاف المدنيين سقطوا قتلى، ومثلهم من المصابين والمشردين.
يقول سجادي: "الغرب يريد دفن الجريمة عبر تحميلها لعدد محدود من الجنود، وإقامة مسرحية قضائية تنتهي بإغلاق الملفات، لكن هذا الشعب، رغم كل ما مرّ به، يطالب بلجنة تحقيق دولية مستقلة، تزور مواقع المجازر، وتحلل الأدلة، وتُجري محاكمات حقيقية".
دماء لا تسقط بالتقادم
ما بين توثيق الجرائم ومطالبات التعويض، تقف ذاكرة الشعب الأفغاني شاهدًا على فصول مظلمة من التدخل الأجنبي، فكل جريمة موثقة وكل اعتراف متأخر يُعيد التذكير بأن العدالة لا تزال غائبة، وأن دماء الأبرياء لا تُمحى باعتذار سياسي أو تقرير إعلامي، ففي ظل هذا الواقع، تبقى رسالة طالبان واضحة: لا حصانة لقاتل، ولا نسيان لدم، ولا سلام دون عدالة حقيقية وشاملة.