الوقت- منذ اندلاع الحرب الشاملة على قطاع غزة في الـ 7 من أكتوبر 2023، تواجه دولة الاحتلال الإسرائيلي تحديات عسكرية وسياسية متزايدة، فضلاً عن أزمة داخلية حادة في صفوف جيشها، فقد تم تسجيل أكثر من 6000 حالة احتجاز لجنود إسرائيليين لأسباب متنوعة، إلى جانب تزايد ملحوظ في حالات الاضطرابات النفسية والانتحار.
وفي وقت يستمر فيه الجيش في تنفيذ عملياته العسكرية جنوب قطاع غزة، يواجه قادة الجيش والجند مسألة محورية تثير القلق: لماذا نقاتل؟، لم تعد الحرب تُعتبر واجبًا وطنيًا مشتركًا، بل أصبحت مصدرًا للضغط النفسي والارتباك في صفوف الجنود، ما يثير تساؤلات جدية حول الروح المعنوية ومستقبل الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
موجة احتجازات غير مسبوقة في الجيش
وفقًا لتقارير عسكرية نُشرت مؤخرًا، تم احتجاز نحو 6000 جندي إسرائيلي منذ بداية الحرب على غزة، تراوحت أسباب الاحتجاز بين التمرد، التخلف عن الخدمة، رفض تنفيذ الأوامر، وأسباب سلوكية أخرى، هذه الأرقام تمثل زيادة غير معهودة في تاريخ جيش الاحتلال الإسرائيلي الحديث، وخاصة في سياق حملة عسكرية ضخمة مستمرة.
وقد أشار الخبراء العسكريون إلى أن هذه الزيادة في حالات الاحتجاز تشير إلى تراجع الانضباط داخل صفوف الجيش، ما يعكس حالة من الفوضى والارتباك في المؤسسة العسكرية، بالإضافة إلى ذلك، أفادت تقارير عديدة بأن عددًا من الجنود رفضوا المشاركة في الجبهات القتالية نتيجة عدم وجود دافع معنوي قوي.
تصاعد معدلات الاضطرابات النفسية والانتحار
حسب صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، ارتفعت نسبة الجنود الذين فكروا أو حاولوا الانتحار بنسبة 145% منذ اندلاع الحرب (هآرتس، يناير 2024)، كما أكدت وزارة الصحة الإسرائيلية تضاعف الحالات النفسية الحادة في صفوف الوحدات القتالية.
من جهتها، ذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" أن أكثر من 9000 جندي طلبوا دعمًا نفسيًا منذ بداية الحرب، مع العلم أن حوالي ربعهم لم يتمكنوا من العودة إلى الخدمة، وتشير الإحصاءات الحديثة إلى أن عدد الجنود الذين يعانون من اضطرابات نفسية قد بلغ مستويات غير مسبوقة في تاريخ جيش الاحتلال، العديد من الجنود يجدون صعوبة في العودة إلى الخدمة بعد فترات طويلة من الإجازات النفسية، فيما يعاني آخرون من صدمة مستمرة ويشعرون بقلق متزايد بسبب ظروف الحرب الضاغطة.
عجز في النظام الطبي النفسي العسكري
وفقًا لتقارير وزارة الصحة الإسرائيلية، يعاني النظام الطبي النفسي العسكري من نقص حاد في الكوادر المتخصصة، حيث يُقدر العجز بـ400 طبيب نفسي، هذا النقص يعوق تقديم العلاج المناسب للجنود المتأثرين نفسيًا ويضعف قدرة الجيش على استعادة قدراته البشرية في المستقبل القريب (همشهري أونلاين، يناير 2024).
إن نقص الخدمات الطبية النفسية يشكل عبئًا إضافيًا على الجيش الإسرائيلي، وخاصة في فترة الحرب التي تتطلب استجابة طبية سريعة وفعالة لعلاج الجنود المصابين نفسيًا بسبب ضغوط المعارك المستمرة.
تحول في الدوافع القتالية: لماذا نقاتل؟
الأزمة النفسية داخل الجيش الإسرائيلي لا تُعد مجرد عرض جانبي، بل هي مؤشر على تحول جذري في دوافع الجنود الفردية للمشاركة في الحرب، فخلافًا للسنوات الماضية التي شهدت دعمًا معنويًا كبيرًا للعمليات العسكرية، تظهر هذه الحرب انعكاسًا مختلفًا تمامًا.
في لقاءات داخلية وبيانات تسربت إلى الصحافة العبرية، أصبح السؤال الذي يطرحه العديد من الجنود هو: "لماذا نقاتل؟"، في ظل المشهد السياسي المضطرب، والاستراتيجية العسكرية الغامضة، وعدم وجود أفق واضح لإنهاء الحرب، هذه التساؤلات تكشف عن فقدان العديد من الجنود المعنى الحقيقي لما يفعلونه، وخاصة في مواجهة مقاومة شديدة من غزة وتكلفة بشرية كبيرة.
تخشى بعض التقارير أن يؤدي فقدان الحافز القتالي إلى تأثيرات سلبية على الفعالية العسكرية، بما في ذلك تدهور قدرة الجيش على التعامل مع المواقف الطارئة، فالروح المعنوية تلعب دورًا حاسمًا في تحديد نتائج الحروب، وإذا استمر هذا الاتجاه، قد يواجه الجيش الإسرائيلي تحديات كبيرة في تعزيز دفاعاته.
أزمة ثقة في القيادة
يتجلى الارتباك السياسي في "إسرائيل"، والانقسام الداخلي بشأن استمرار الحرب، بشكل واضح في صفوف الجنود، فقد تزايدت أزمة الثقة في القيادة السياسية والعسكرية، وخاصة بعد فشل استراتيجيات استعادة الرهائن وتحقيق نصر حاسم، ولا تقتصر هذه الأزمة على الجنود الفرديين فحسب، بل تمتد أيضًا إلى فعالية القيادة العليا في اتخاذ القرارات الاستراتيجية على أرض المعركة.
تتزايد الانتقادات داخل الجيش الإسرائيلي حول القيادة العسكرية وطريقة إدارة الحرب، ما يطرح تساؤلات حول قدرة "إسرائيل" على تحقيق نصر عسكري حاسم في ظل التوترات الداخلية السياسية والاجتماعية.
الأثر الاجتماعي الممتد
لا تقتصر تداعيات هذه الأزمة على المجال العسكري فحسب، بل تمتد أيضًا إلى النسيج الاجتماعي في "إسرائيل"، ومن المتوقع أن تؤدي الاضطرابات النفسية الحالية إلى تحديات اجتماعية واسعة، مثل زيادة معدلات العنف الأسري، صعوبات في إعادة دمج الجنود العائدين إلى الحياة المدنية، وارتفاع الطلب على الدعم النفسي في المجتمع الإسرائيلي.
وتواجه الحكومة الإسرائيلية تحديات كبيرة في مساعيها لإعادة تأهيل الجنود المتأثرين نفسيًا، في وقت تتصاعد فيه الضغوط على المؤسسات الاجتماعية لتوفير الدعم الملائم.
تُظهر هذه المعطيات أزمة هيكلية غير مسبوقة داخل الجيش الإسرائيلي، لا تقتصر على الجبهات القتالية في غزة، بل تمتد لتشمل البنية النفسية والاجتماعية للجيش نفسه، ومع تزايد حالات الاحتجاز، والانتحار، وطلب الدعم النفسي، يبدو أن "إسرائيل" تواجه معضلة معقدة: كيف يمكنها الاستمرار في حرب طويلة الأمد بينما تنهار البنية الداخلية لجيشها؟
إجابة هذا السؤال لا تتعلق فقط بالاستراتيجيات العسكرية، بل تستدعي مراجعة شاملة للنهج السياسي والأمني المتبع، والاعتراف بأن الحروب لا تُحسم بالقوة وحدها، بل أيضًا بالإرادة، والدافع، والاستقرار الداخلي.