الوقت- في خطوة فجّرت جدلاً واسعاً داخل فرنسا وخارجها، أعلنت وزارة الداخلية الفرنسية حلّ جمعية "الطوارئ من أجل فلسطين"، أكبر الكيانات الشعبية المؤيدة للقضية الفلسطينية في البلاد.
القرار، الذي بررته الحكومة بأنه يهدف إلى الحفاظ على النظام العام ومحاربة التحريض على الكراهية، أثار انتقادات لاذعة من منظمات حقوقية وشخصيات سياسية، رأوا فيه تصعيداً مقلقاً ضد حرية التعبير والعمل المدني، وخاصة عندما يتعلق الأمر بفلسطين، إلا أن هذا القرار لا يمكن فهمه كإجراء إداري صرف، بل يعكس توترات أعمق في المجتمع الفرنسي: توتراً بين السلطة الرسمية وموجة تضامن شعبي متنامية مع الفلسطينيين، وتوتراً آخر بين مبادئ الجمهورية المُعلنة وقواعد الممارسة السياسية على أرض الواقع.
جمعية صاعدة أقلقت الدولة
تأسست جمعية "الطوارئ من أجل فلسطين" أواخر عام 2023 كرد فعل على التصعيد العسكري الإسرائيلي في قطاع غزة، واستطاعت في غضون أشهر قليلة أن تتحول إلى واجهة مركزية للنشاط المناصر لفلسطين في فرنسا، نظّمت الجمعية مظاهرات كبرى في مدن مثل باريس وليون ومرسيليا، جمعت عشرات الآلاف من المشاركين، معظمهم من الشباب الفرنسيين من أصول عربية ومسلمة، إلى جانب أصوات من اليسار التقدمي والمجتمع المدني.
لكن الحضور الجماهيري لم يكن وحده ما أقلق السلطات، فقد نجحت الجمعية في اختراق النقاش العام، وربطت بين التضامن مع الفلسطينيين والنقد العلني للسياسات الفرنسية الخارجية، بل حتى لقانونية صفقات السلاح مع "إسرائيل"، كما رفعت شعارات واضحة ضد ازدواجية المعايير الغربية، متهمة الحكومة الفرنسية بتجاهل الانتهاكات الإسرائيلية بينما تُمارس أقصى درجات القمع تجاه الناشطين المحليين المؤيدين لفلسطين.
حل الجمعية بناء على اتهامات أمنية وخطاب كراهية
وزارة الداخلية، وعلى لسان الوزير برونو ريتايو، اتهمت الجمعية بترويج خطاب يحض على الكراهية، وتمجيد أعمال عنف تُصنّف إرهابية، معتبرة أن بعض شعارات الجمعية تمثل تحريضاً على العنف، وتخلق مناخاً معادياً لليهود في فرنسا، القرار جاء بموجب قانون يتيح للحكومة حلّ الجمعيات التي يُشتبه في تهديدها للنظام العام.
لكن الجمعية نفت هذه الاتهامات جملة وتفصيلاً، مؤسسها، عمر السومي، وصف القرار بأنه "محاولة لإسكات صوت الضحايا"، مؤكداً أن الجمعية تعتمد خطاباً سياسياً وحقوقياً يناهض الاحتلال الإسرائيلي، لا الديانة اليهودية أو أتباعها، كما اعتبرت المحامية إلسا مارسيل، التي تمثل الجمعية، أن القرار يؤسس لسابقة خطيرة من حيث استخدام قوانين مكافحة الإرهاب لتجريم العمل التضامني.
حل الجمعية يثير جدلاً حول قيم الجمهورية الفرنسية
تبدو الدولة الفرنسية اليوم ممزقة بين صورتين متناقضتين: من جهة، تدّعي أنها قلعة الحريات وحرية التعبير، ومن جهة أخرى، تسلك طريقاً أمنياً متشدداً تجاه كل ما يهدد نموذجها الجمهوري، وخاصة حين يتعلق الأمر بقضايا مرتبطة بالشرق الأوسط، والإسلام، والهجرة.
قرار حلّ "الطوارئ من أجل فلسطين" ليس حالة معزولة، بل هو جزء من سلسلة خطوات مماثلة خلال السنوات الأخيرة، استهدفت جمعيات ومساجد ومنصات إعلامية بحجة مكافحة الانفصالية الإسلامية أو التحريض على التطرف، لكن هذه السياسات بحسب منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" – غالباً ما تفتقر إلى الشفافية القانونية، وتؤدي إلى تجريم جماعي لشريحة واسعة من المواطنين الفرنسيين من أصول مهاجرة.
وفي سياق يتم فيه خلط معاداة السامية بانتقاد الكيان الصهيوني، تزداد المخاوف من أن تتحول القوانين إلى أدوات سياسية تُستخدم ضد معارضي سياسات الدولة أو المدافعين عن قضايا غير مرغوب بها في الأجندة الرسمية.
حل الجمعية في توقيت حساس داخلياً وخارجياً
لا يمكن قراءة هذا القرار بعيداً عن السياق السياسي الداخلي في فرنسا، فالحكومة الحالية، بقيادة الرئيس إيمانويل ماكرون، تواجه تراجعاً في شعبيتها، وصعوداً لافتاً لليمين المتطرف بزعامة مارين لوبان، وفيما تقترب البلاد من الانتخابات الرئاسية عام 2027، يسعى كثير من السياسيين لإثبات صلابتهم في ملف الأمن ومكافحة التطرف.
من هنا، قد يُفهم قرار حل الجمعية كرسالة مزدوجة: الأولى للداخل، حيث تسعى الحكومة إلى طمأنة الناخبين بأنها حازمة تجاه كل ما يهدد السلم المدني، والثانية للخارج، وخاصة لحلفاء فرنسا في الغرب، بأنها ترفض أي خطاب يُفهم على أنه دعم للمقاومة الفلسطينية ضد "إسرائيل".
لكن هذا التوقيت يتزامن أيضاً مع تعاطف عالمي متزايد مع الشعب الفلسطيني، إثر ما يتعرض له من قصف وتجويع في قطاع غزة، وقد أظهر استطلاع للرأي نُشر مؤخراً أن أكثر من 60% من الفرنسيين وخاصة الشباب يتعاطفون مع الفلسطينيين، ويطالبون بموقف أكثر توازناً من حكومتهم، وبالتالي، فإن القرار قد يرتد سلباً على الدولة، ويُعمّق الفجوة بين الطبقة الحاكمة والجيل الجديد من الناشطين والمواطنين.
إغلاق الجمعية لا يوقف المظاهرات والدعم الشعبي
رغم الضربة القانونية والإدارية التي تعرّضت لها الجمعية، إلا أن الحراك لم يتوقف. لا تزال المظاهرات تخرج، تحت أسماء كيانات جديدة أو بغطاء نقابات وجمعيات أخرى، كما أن مواقع التواصل الاجتماعي تحولت إلى فضاء بديل، تنشط فيه رسائل الجمعية وبياناتها وحملاتها الإعلامية.
والأرجح أن حلّ الجمعية قد يكون مجرد بداية لمرحلة جديدة من التنظيم غير الرسمي، تتسم بمرونة أكبر، وانفتاح على تحالفات سياسية ومجتمعية أوسع، تجعل من التضامن مع فلسطين قضية متجذّرة في قلب النقاش العام الفرنسي، لا مجرد موجة عابرة.
في النهاية يمكن القول إن الجمهورية الفرنسية على المحك، وأن قرار حلّ "الطوارئ من أجل فلسطين" لا يتعلق بجمعية واحدة، بل يمسّ قلب النقاش حول معنى الجمهورية الفرنسية اليوم، هل هي فعلاً جمهورية الحريات، أم إنها باتت ضيقة الصدر تجاه الأصوات الناقدة، وخاصة حين تأتي من أبناء الضواحي، أو من خلفيات مهاجرة، أو مناصرة لقضايا الجنوب العالمي؟
المعركة ليست فقط قانونية، بل رمزية وأخلاقية، وهي ستبقى مفتوحة ما دامت فرنسا تحاول التوفيق بين التزاماتها كدولة غربية حليفة للعدو، وواقعها كدولة متعددة الثقافات والهويات، يتطلع فيها جيل جديد إلى الحرية والعدالة، لا إلى الصمت والخضوع.