الوقت - بينما ينشغل الكيان الصهيوني بساحات القتال المفتوحة منذ السابع من أكتوبر، تتصاعد داخله مأساة صامتة قد تكون أكثر فتكاً من الرصاص – جنود يعودون من الجبهة، محملين بما لا يُحتمل، فيختارون الانسحاب من الحياة.
كشف موقع "شومريم" العبري عن ارتفاع غير مسبوق في حالات انتحار الجنود في صفوف جيش الاحتلال، وخاصة من جنود الاحتياط، وسط تحذيرات جدية من أن الموجة الكبرى من هذه الظاهرة لم تصل بعد، ووفقاً لتقارير نُشرت مطلع يناير 2025، فإن 21 جندياً أقدموا على الانتحار خلال عام 2024، مقارنة بـ17 في العام السابق، وهو أعلى معدل منذ العام 2011.
رغم محاولة الجيش التهوين من خطورة هذه الأرقام، بزعم أنها منخفضة نسبياً مقارنة بتضاعف أعداد جنود الاحتياط المشاركين في الحرب، فإن الخبراء يرون في هذه الحالات مجرد بداية لأزمة نفسية أعمق.
البروفيسور يوسي ليفي بلاز، رئيس مركز أبحاث الانتحار في مركز روبين الأكاديمي، يؤكد أن الأرقام المعلنة لا تعكس الواقع الحقيقي، محذراً من موجة قادمة من الانتحارات في صفوف الجنود الذين يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة.
جنود محطمون يواجهون الواقع القاسي
إحدى القصص المفجعة هي لأسرة جندي احتياطي شارك في صد هجوم حماس على كيبوتس ناحال عوز في السابع من أكتوبر، شاهد بعينيه جثث المستوطنين تملأ الطرقات، وقضى ساعات في جمعها، الصدمة لم تغادره، وكان دائم البكاء، بعد إصابته داخل غزة، عاد إلى منزله مصاباً بضعف حاد في السمع، ومعزولاً عن محيطه، في أحد الأيام، انفجر غضباً في وجه أسرته صارخاً: "كفى صراخاً! أذني تؤلمني!"، كان ذلك صرخة داخلية لم يستطع أحد فهمها.
المديرة المهنية بجمعية "آران"، شيري دانيلز، توضح أن الجنود يخوضون انتقالاً صعباً من ساحة الحرب إلى الحياة المدنية، تقول: "إنهم يعودون من القتال، قلوبهم تخفق بسرعة، والأدرينالين لا يزال في عروقهم، ثم يدخلون منازلهم ليصطدموا بواقع مختلف تماماً، واقع لا يستوعبهم".
حسب دانيلز، تتطلب الحياة المدنية مهارات نفسية تختلف كلياً عن تلك المطلوبة في الحرب، وإن غياب هذه المهارات يترك الجنود في حالة من الغربة والضياع، "العودة للمواطنة"، كما وصفتها، هي "أكثر تعقيداً من خوض المعركة".
إيليران مزراحي: من أيقونة الابتسامة إلى ضحية الصمت
أحد أبرز الأمثلة التي أثارت جدلاً واسعاً هو الجندي إيليران مزراحي، الذي انتحر بعد أشهر من الخدمة في غزة، خدم مزراحي في أخطر المناطق مثل خانيونس وتل السلطان، وأصيب ثلاث مرات، وتم تسريحه بعد ذلك، ورغم بدء علاجه النفسي واعترافه بمعاناته من أعراض ما بعد الصدمة، تلقى أمراً عسكرياً جديداً للعودة إلى غزة، بعد يومين فقط من استدعائه، أقدم على الانتحار.
تقول عائلته إنهم لاحظوا تغيّراً حاداً في سلوكه، إذ أصبح يرتدي نظارات شمسية حتى داخل المنزل لإخفاء حزنه، وكان يروي ما مرّ به خلال الحرب، لكنه لم يكشف الكثير من آلامه النفسية، لم يكن ينام ليلاً، وبدأت الكوابيس تطارده، وذات مرة، شهد مصرع رفيقه برصاصة في الرأس، وبدأ يجمع أشلاء دماغه من الأرض – مشهد بقي محفوراً في ذاكرته حتى النهاية.
قنابل موقوتة تنتظر الانفجار
الخبراء يحذرون من أن كثيراً من الجنود، وخصوصاً الاحتياط، يعيشون على حافة الانهيار، الصدمة النفسية لا تظهر مباشرة، بل تتسلل بصمت، ومع غياب الدعم النفسي الجاد، يتحول هؤلاء الجنود إلى قنابل موقوتة.
الانتحار لا يأتي فقط كنتيجة مباشرة لما رأوه أو فعلوه، بل أيضاً نتيجة شعورهم بالعزلة وانعدام الاحتواء بعد عودتهم، التناقض بين "العدو الخارجي" الذي وحدهم وقت الحرب، و"العدو الداخلي" الذي ينهش أرواحهم بعد عودتهم، يجعلهم ضحايا مرحلة ما بعد الحرب، وهي مرحلة لا تجد صدىً كبيراً في الإعلام الرسمي أو في مؤسسات الجيش.
رغم توقف أصوات القصف مؤقتاً، فإن معركةً أخرى مستمرة في عقول وقلوب هؤلاء الجنود، معركة الصمت، الكوابيس، والعجز عن العودة إلى الحياة، الانتحارات الأخيرة ليست حوادث فردية، بل مؤشرات على خلل عميق في بنية المؤسسة العسكرية والمجتمع الإسرائيلي الذي يفشل في احتواء جنوده بعد الحرب.
إن استمرار هذه الأزمة دون تدخل حقيقي في جانب الصحة النفسية والدعم المجتمعي يعني أن الحرب في غزة، وإن انتهت ميدانياً، فإن آثارها ستظل تنهش في الداخل الإسرائيلي بصمت قاتل.