الوقت- في القرن الحادي والعشرين، وفي عصر تُرفع فيه الشعارات الدولية لحقوق الإنسان والكرامة الإنسانية، يعيش أكثر من مليوني إنسان في قطاع غزة مأساة لا يمكن وصفها إلا بأنها إبادة جماعية بطيئة تُنفّذ عبر التجويع الممنهج، ويجري ذلك تحت سمع وبصر العالم، بل في ظل تواطؤ وصمت دولي مشين.
تجويع غزة: سياسة ممنهجة لا أزمة طارئة
منذ الـ 7 من أكتوبر 2023، أطلقت "إسرائيل" عدوانًا غير مسبوق على قطاع غزة، خلّف أكثر من 170 ألف قتيل وجريح، معظمهم من النساء والأطفال، ودمّر البنية التحتية للقطاع بشكل شبه كامل، لكن الأسوأ جاء بعد ذلك، عندما تحول الغذاء إلى سلاح حرب، حيث فرضت "إسرائيل" حصارًا مطبقًا وشاملًا على القطاع، وأغلقت المعابر بشكل كامل اعتبارًا من 2 مارس 2025، مانعة دخول الغذاء والماء والدواء، ما فاقم معاناة المدنيين بشكل كارثي.
وحسب ما تؤكده تقارير برنامج الأغذية العالمي، فإن غزة اليوم أصبحت "خالية تماماً من الطعام"، وقد نفد آخر مخزون غذائي تمتلكه الأمم المتحدة وجرى توزيعه على المطابخ المجتمعية التي كانت تقدم وجبة واحدة يومياً لحوالي 700 ألف شخص، ولم يعد هناك ما يُوزع.
تجويع الفلسطينيين: جريمة حرب تُرتكب أمام عدسات العالم
وصفت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية، أنييس كالامار، ما يجري في غزة بأنه "إبادة جماعية على مرأى ومسمع الجميع"، مؤكدة أن "إسرائيل" تستخدم التجويع كأداة ممنهجة لإبادة السكان، وأن المجتمع الدولي – وبشكل خاص الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية – فشل في وقف هذه الجرائم، بل ساهم في تحويلها إلى "أمر واقع".
كالامار دعت بشكل واضح إلى الاعتراف الدولي بأن ما يحدث في غزة هو إبادة جماعية، مطالبة الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي باتخاذ خطوات عاجلة لوقف الكارثة، وضمان تنفيذ مذكرات التوقيف الدولية بحق المسؤولين عنها، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية.
120 ألف طن من الغذاء خلف المعابر... وغزة تتضوّر جوعًا
في مشهد عبثي ومؤلم، تقف أكثر من 120 ألف طن من المواد الغذائية محتجزة على معابر غزة، ممنوعة من الدخول رغم أن القطاع يعاني من مجاعة فعلية، ولا يجد سكانه ما يأكلونه أو يشربونه، وتؤكد المتحدثة باسم برنامج الأغذية العالمي، عبير عطيفة، أن المنظمات الإغاثية لا تملك أي وسيلة حاليًا لإنقاذ الأرواح سوى فتح المعابر فورًا والسماح بدخول المساعدات، محذرة من أننا سنشهد في الأيام المقبلة "إحصائيات مرعبة" عن سوء التغذية والمجاعة.
وما يزيد من فداحة الوضع هو أن هذه المساعدات – التي تشمل غذاءً ودواءً وماءً – جاهزة وموجودة فعلاً على المعابر وفي المستودعات في مصر والأردن وحتى في "إسرائيل" نفسها، لكنّ الحكومة الإسرائيلية تمنع إدخالها عمدًا، في انتهاك صريح لاتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني، ما يجعل من التجويع جريمة مقصودة ومدبّرة.
المدنيون في غزة: بين الموت جوعًا والموت قصفًا
يعيش من تبقى من المدنيين في غزة وضعًا لا يمكن وصفه إلا بأنه جحيم على الأرض، فحتى أولئك الذين نجوا من القصف الإسرائيلي لا يجدون اليوم ما يسد رمقهم أو يروي عطشهم أو يداوي جراحهم، الأسواق فارغة، والأفران توقفت عن العمل، والماء غير متوافر، والأدوية نفدت من المستشفيات.
وحسب تقارير منظمة الصحة العالمية، فقد أصبح الوضع الصحي كارثيًا، مع انتشار الأمراض الناجمة عن سوء التغذية وتلوث المياه، في ظل انهيار شبه كامل للمنظومة الطبية.
فشل دولي وأخلاقي في وجه الجريمة
لم يعد الصمت الدولي تجاه ما يحدث في غزة يُفسَّر على أنه عجز، بل بات يُنظر إليه على أنه تواطؤ مباشر مع الجريمة، فالولايات المتحدة، بدلاً من الضغط على "إسرائيل" لوقف الحصار، تواصل دعمها السياسي والعسكري غير المحدود، فيما اكتفت الدول الأوروبية ببيانات خجولة، وتراجعت عن مواقفها حتى في تنفيذ قرارات المحكمة الجنائية الدولية.
كالامار أكدت أن الاتحاد الأوروبي إذا لم يتخذ موقفًا حاسمًا، فإنه سيكون شريكًا في الجريمة، مطالبة بأن يكون هناك تنفيذ فعلي لمذكرة التوقيف بحق نتنياهو، ومحاسبة جميع المسؤولين الإسرائيليين عن الجرائم المرتكبة في غزة.
دعوات لرفع الحصار فورًا وتقديم المساعدات
في ظل هذا الواقع الكارثي، المطلب الأساسي اليوم ليس مجرد المساعدات، بل رفع الحصار بشكل كامل وفوري، فالناس في غزة لا يحتاجون إلى "فتات الغذاء" أو "إغاثات رمزية"، بل إلى دخول كميات وفيرة ومستمرة من المواد الغذائية والماء والدواء، بما يتناسب مع حجم الكارثة الإنسانية المتفاقمة.
كما شدّدت المنظمات الإغاثية الدولية على ضرورة تأمين العاملين في المجال الإنساني الذين يتعرضون بدورهم للاستهداف، وضمان سلامة قوافل الإغاثة حتى تتمكن من الوصول إلى المحتاجين.
الاعتراف بالإبادة: مسؤولية سياسية وأخلاقية
من أخطر ما كشفته التصريحات الأخيرة هو أن عددًا من الدول الأوروبية، وخاصة ألمانيا، ترفض حتى توصيف ما يجري في غزة بأنه إبادة جماعية، بل تتجه إلى قمع الأصوات التي تتضامن مع الفلسطينيين وتنتقد "إسرائيل"، تحت ذرائع قانونية واهية. وهو ما وصفته كالامار بأنه "تواطؤ مع الجريمة وقمع لحرية التعبير".
لقد بات الاعتراف بأن ما يحدث في غزة هو إبادة جماعية ترتكبها "إسرائيل"، ضرورة أخلاقية وسياسية وإنسانية، وعلى المجتمع الدولي أن يتحرك لفرض هذا الاعتراف في المحافل الدولية، تمهيدًا لمحاسبة الجناة ووقف المجزرة المستمرة بحق أكثر من مليوني إنسان محاصر.
ختام القول
ما يجري في غزة اليوم ليس مجرد كارثة إنسانية ناتجة عن حرب، بل هو مشروع إبادة ممنهج، تُستخدم فيه كل الأدوات، من القصف إلى التجويع، ومن منع الدواء إلى قمع الكلمة الحرة، ويموت المدنيون في غزة كل يوم، لا لذنب اقترفوه، بل لأنهم فلسطينيون يعيشون تحت احتلال لا يعترف بإنسانيتهم، وعالم تواطأ أو صمت.
إن فتح المعابر، ورفع الحصار، ومحاسبة المجرمين، وتوفير الغذاء والدواء والماء، لم تعد خيارات سياسية، بل واجبات إنسانية ملحّة، وعلى الضمير العالمي أن ينهض من سباته، قبل أن يُمحى شعبٌ بأكمله من الوجود.