الوقت- شكّل هجوم حركة "حماس" على جنوب "کیان الاحتلال" في الـ 7 من أكتوبر 2023 لحظة مفصلية في التاريخ الأمني والسياسي الإسرائيلي، لما انطوى عليه من عنف مفاجئ، وسقوط أمني مدوٍّ، وسجال سياسي محتدم، خلفت العملية أكثر من 1,200 قتيل إسرائيلي ومئات الجرحى، بالإضافة إلى اختطاف نحو 250 شخصًا، معظمهم من المدنيين، في هجوم عدّه محللون أكبر فشل استخباراتي في تاريخ "إسرائيل" منذ حرب أكتوبر 1973.
في أعقاب الهجوم، تصاعدت الدعوات الداخلية والخارجية لتشكيل لجنة تحقيق مستقلة تفتح ملفات ما جرى، وتحدّد مواضع الخلل والمسؤولية، وتعيد بناء ثقة الجمهور في المنظومة الأمنية، غير أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اتخذ موقفًا متحفظًا بل رافضًا حتى اللحظة لتشكيل لجنة حقيقية مستقلة، وهو ما أطلق جدلًا واسعًا حول أسبابه وهواجسه، ولا سيما في ظل ظروف سياسية وقانونية غير مسبوقة يواجهها.
الهجوم والصدمة الأمنية
في صباح يوم السبت، الـ 7 من أكتوبر 2023، شنت "كتائب عز الدين القسام" الذراع العسكري لحركة "حماس"، عملية عسكرية منسّقة وواسعة النطاق ضد بلدات ومستوطنات إسرائيلية في محيط قطاع غزة، استخدمت الحركة مزيجًا من الطائرات المسيّرة، وصواريخ قصيرة المدى، واقتحامات برية عبر فتحات في السياج الحدودي، وحسب تقارير "واشنطن بوست" (9 أكتوبر 2023)، فقد اخترقت قوات "حماس" الحدود في أكثر من 30 نقطة خلال ساعات قليلة، بينما بقي الجيش الإسرائيلي غائبًا أو مشوشًا في استجابته.
تُظهر نتائج هذا الهجوم وجود إخفاق استخباراتي كبير، حيث أشارت تقارير لاحقة إلى أن جهاز "الشاباك" وقيادة الاستخبارات العسكرية (أمان) تلقّيا مؤشرات مسبقة على تحركات غير معتادة داخل القطاع، غير أن تحليل تلك المؤشرات اتّسم بالقصور نتيجة "غطرسة استخباراتية" حسب تعبير تقرير صادر عن مركز مكافحة الإرهاب في "ويست بوينت" الأمريكية، نُشر في أكتوبر 2024.
وفي بيان صدر عن الجيش الإسرائيلي بتاريخ الـ 27 من فبراير 2025، تم الاعتراف رسميًا بوجود "فشل منهجي" في التقديرات الأمنية، وأن تحقيقًا داخليًا جارٍ، دون الإشارة إلى مسؤوليات سياسية مباشرة.
لماذا يخشى نتنياهو التحقيق؟
إن تشكيل لجان تحقيق رسمية بعد الكوارث الوطنية أمر مألوف في السياق الإسرائيلي، فبعد حرب أكتوبر 1973، أُنشئت "لجنة أغرانات"، كما تم تشكيل "لجنة فينوغراد" في أعقاب حرب لبنان الثانية 2006، لكن حالة الـ 7 من أكتوبر بدت مختلفة تمامًا من حيث الرفض الحكومي، ولا سيما من جانب نتنياهو، الذي يرى مراقبون أنه يقود حملة منظمة لتأجيل أو إضعاف أي تحقيق مستقل.
وفق تحليل نشرته صحيفة "الغارديان" (22 نوفمبر 2024)، فإن نتنياهو يخشى أن يؤدي أي تحقيق رسمي إلى تحميله المسؤولية السياسية أو حتى الجنائية، وهو ما قد يعجّل بانهيار حكومته اليمينية ويقضي على مستقبله السياسي، وحسب مصادر إعلامية، فإن جهات داخل "الليكود" باتت تعتبر نتنياهو عبئًا سياسيًا، وخصوصًا بعد تراجع شعبيته في استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أدنى مستوياتها منذ توليه الحكم.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الضغط الدولي آخذ في التصاعد، حيث أفادت تقارير حقوقية بأن المحكمة الجنائية الدولية قد تنظر في إصدار مذكرات توقيف بحق مسؤولين إسرائيليين، من ضمنهم نتنياهو، على خلفية العمليات العسكرية في غزة وهو ما حدث بالفعل، وتشير صحيفة "هآرتس" إلى أن أي لجنة تحقيق داخلية قد تزوّد المجتمع الدولي بمستندات أو شهادات توثق تقصيرًا رسميًا أو خرقًا للقانون الدولي.
وفي خطوة فُسّرت على أنها تهرب من الالتزام القضائي، قررت الحكومة الإسرائيلية في الـ 10 من فبراير 2025 تأجيل البت في تشكيل لجنة التحقيق لمدة ثلاثة أشهر، رغم أن المحكمة العليا كانت قد أمرت بتشكيلها خلال فترة أقصاها 30 يومًا.
الرأي العام والانقسام السياسي
اثار رفض التحقيق سخطًا شعبيًا واسعًا، إذ شهدت مدن مثل تل أبيب وحيفا والقدس مظاهرات حاشدة تُطالب نتنياهو بالاستقالة وتدعو لتشكيل لجنة تحقيق مستقلة بصلاحيات كاملة، وتشارك في هذه الاحتجاجات عائلات رهائن وجنود، إضافة إلى شخصيات أمنية وسياسية سابقة، مثل رئيس الأركان الأسبق "غادي آيزنكوت"، الذي دعا علنًا إلى "تحقيق بلا خطوط حمراء".
وبينما يدافع نتنياهو عن نفسه بالقول إن "التحقيق يجب أن يتم بعد انتهاء الحرب" – وهي حرب لم تنتهِ فعليًا حتى مايو 2025 – يرى مراقبون أن هذا التبرير غير منطقي، وخاصة أن لجنة "فينوغراد" كانت قد بدأت أعمالها خلال الحرب في لبنان 2006، ولم يُنظر إليها حينها على أنها تهديد مباشر للعمليات العسكرية.
بين المساءلة والدولة العميقة
في ظل تصاعد الضغط الشعبي وتزايد الانقسامات السياسية، يبدو أن نتنياهو يراهن على عامل الوقت والمناورة التشريعية للبقاء في السلطة لأطول مدة ممكنة، لكن تجاهل المطالب المتكررة بالتحقيق قد يرتدّ عليه بمزيد من العزلة الداخلية، وربما بانشقاقات داخل معسكره السياسي.
إن تشكيل لجنة تحقيق مستقلة وشفافة لم يعد خيارًا سياسيًا بل مطلبًا ديمقراطيًا ووطنيًا ملحًا، سواء من أجل كشف حقيقة ما جرى في الـ 7 من أكتوبر، أو من أجل ترميم الثقة المنهارة بين المواطنين ومؤسسات الحكم.
فإن الإصرار على تأجيل التحقيق أو قصره على لجان داخلية محدودة الصلاحيات، قد يؤدي إلى نتيجة عكسية تمامًا، فالثقة التي فقدها الجمهور الإسرائيلي – وخصوصًا بعد سنوات من إدارة نتنياهو الصدامية مع القضاء ووسائل الإعلام – لن تُستعاد.