الوقت - لئن كان محور اهتمام مجموعة بريكس (BRICS) ينصبّ في جوهره على توطيد أواصر التعاون الاقتصادي بين أعضائها، ولا سيما في إطار بناء المؤسسات كبنك التنمية الجديد، غير أن انعقاد اجتماع أمناء مجالس الأمن القومي للدول الأعضاء - البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا والأعضاء الجدد بما فيهم إيران - في البرازيل، قد أسبغ أهميةً بالغةً على التعاون الأمني بين دول هذا التكتل.
وتجسد زيارة “علي أكبر أحمديان”، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، إلى البرازيل للمشاركة في هذا الاجتماع الرفيع، الدور المتنامي لإيران في منظومة التعاون الأمني متعدد الأطراف، ومساعيها الحثيثة لترسيخ مكانتها في النظام الأمني الدولي الذي يشهد تحولات جذرية.
أبعاد التعاون الأمني في بريكس
أبصرت مجموعة بريكس النور عام 2009 مستندةً إلى رؤية مفادها بأن المؤسسات الدولية باتت ترزح تحت نير الهيمنة الغربية، ولم تعد تفي بتطلعات الدول النامية، يروم هذا التكتل إلى نسج خيوط التناغم بين السياسات الاقتصادية والدبلوماسية لأعضائه، وإرساء دعائم مؤسسات مالية جديدة، والتحرر تدريجياً من قيود التبعية للدولار الأمريكي.
وإن كانت مجموعة بريكس تضع موضع تساؤل هيمنة القوى الغربية على دفة النظام العالمي الراهن، فإنها لا تطعن في الأسس والمعايير التي شُيد عليها صرح النظام الدولي، تسعى المجموعة لإنشاء آليات أمنية مستقلة لمجابهة التهديدات المشتركة التي تتربص بأعضائها كشبح الإرهاب، ومخاطر الفضاء السيبراني، وشرور التدخلات الخارجية.
في جوهر الأمر، تضطلع بريكس بدور التكتل غير الغربي الساعي لإرساء توازن في النظام الأمني الدولي، وتقليص الارتهان للمؤسسات الخاضعة لسطوة النفوذ الغربي (على شاكلة حلف الناتو)، وفي حين أن الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، قد انتهج خلال العقود المنصرمة سياسة الأحادية واتخذ من المعايير والمؤسسات الدولية مطيةً لبلوغ مآربه، إما بالضلوع المباشر في زعزعة استقرار بؤر التنافس الجيوسياسي ضد منافسيه، أو باستغلالها كأداة طيعة في يده، فإن نهج بريكس التوازني يستنهض همم الدول الأخرى للانضواء تحت لوائه، بغية تعزيز تلك المعايير ومكافحة التهديدات الأمنية التي تقوض دعائم السلم والاستقرار الدوليين.
1- توسيع آفاق التعاون في مكافحة الإرهاب والأمن السيبراني
تجابه دول بريكس تحديات متشابكة كالإرهاب (وخاصةً الجماعات التكفيرية)، والجريمة المنظمة العابرة للحدود، والتهديدات السيبرانية المتنامية، ويكتسي الأمن السيبراني أهميةً قصوى لدول بريكس، إذ تحتضن أراضيها قرابة 40% من مستخدمي الإنترنت في العالم، وقد شهدت الهجمات التي تستهدف البنى التحتية الحيوية لأعضائها، تصاعداً مقلقاً بنسبة 35% في عام 2023.
هذا الواقع المتشابك يذكي جذوة الاهتمام المشترك بالتعاون في تطوير تقنيات الأمن السيبراني أو استيرادها أو تصديرها، ويمكن لهذا الاجتماع الرفيع أن يمهّد السبيل لتنسيق أوثق في العمليات الاستخباراتية، وتبادل المعلومات الأمنية الحساسة، وصياغة استراتيجيات مشتركة تصون المصالح الحيوية للأعضاء.
2- أمن الطاقة والأمن الاقتصادي: شريان الحياة للتنمية المستدامة
أضحى أمن الطاقة في عصرنا الراهن ركيزةً أساسيةً من ركائز التنمية المستدامة، ومن هذا المنطلق تحولت المساعي للسيطرة على شرايين الطاقة الرئيسية، ولا سيما النفط والغاز، إلى محور رئيسي في أتون المنافسات الجيوسياسية المحتدمة بين القوى الإقليمية والدولية، تمثّل الطاقة ميداناً خصباً للتعاون بين دول بريكس، حيث شهدت التجارة البينية داخل المجموعة طفرةً هائلةً بلغت نسبتها 200% في الفترة الممتدة بين عامي 2015 و2023.
ونظراً لأن التعاون في مضمار أمن الطاقة قد يخفّف من وطأة العقوبات الغربية الأحادية الجائرة، وبالنظر إلى العضوية المتزامنة لأقطاب إنتاج الطاقة الرئيسية (كروسيا وإيران والسعودية التي تنتج مجتمعةً 43% من النفط العالمي) وأسواق استهلاك الطاقة الكبرى (الهند والصين والبرازيل) في هذه المنظومة، فإن مسألة تأمين خطوط نقل الطاقة (حماية 65% من خطوط نقل الطاقة العالمية) تتبوأ مكانةً محوريةً في سلم أولويات الأعضاء.
تشهد حصة دول بريكس في سوق الطاقة العالمي نمواً مطرداً، في حين ظلّ التعاون حتى الآن حبيس الأطر الثنائية، لذا، يرى الخبراء أن الحصة المتنامية من أمن وحوكمة الطاقة، تستلزم استجابةً منسقةً واستراتيجيةً متعددة الأطراف تفتح آفاقاً رحبةً للتنمية أمام جميع الأعضاء.
في هذا السياق، أدلى ألكسندر سيلفيرا، وزير المناجم والطاقة، في 20 مارس خلال افتتاح الاجتماع الثاني للطاقة لمجموعة بريكس، برئاسة البرازيل، في برازيليا بتصريح جاء فيه: “تنوء كواهلنا بمسؤولية السعي الحثيث لتحقيق التوازن المنشود بين أمن الطاقة والتنمية المستدامة، والانتقال إلى مستقبل منخفض الكربون”.
وأردف سيلفيرا قائلاً: “إن توسع هذا التكتل يسلط الأضواء على أهميتنا البالغة، ويستنهض همتنا لتعزيز مكانة دول الجنوب العالمي، وهذا يقتضي تجويد إدارة التعاون في ميدان الطاقة لإضفاء طابع أكثر شموليةً واستدامةً عليه، يتعين علينا تنسيق جهودنا والتأكد من أن انضمام الأعضاء الجدد يصقل قدراتنا، ويوسّع آفاق الفرص المتاحة أمامنا”.
3- التنسيق في الأزمات الإقليمية: نحو إدارة رشيدة للمشهد الدولي
بالنظر إلى الدور المحوري الذي تضطلع به روسيا والصين في أزمات مستعرة كأوكرانيا وتايوان، والمكانة البارزة التي تتبوؤها إيران في غرب آسيا، يمكن لمجموعة بريكس أن تتحول إلى منصة بالغة الأهمية لإدارة الأزمات الدولية بحكمة ورشاد.
لقد أجرت إيران وروسيا والصين في الآونة الأخيرة عدة جولات من المناورات البحرية المشتركة في إطار آلية حزام الأمن البحري في مياه المحيط الهندي وبحر عُمان والخليج الفارسي، لإبراز وحدة صفها في صون أمن الملاحة وخطوط الشحن والتصدي بحزم للتدخلات الخارجية.
مكانة إيران في النظام الأمني لغرب آسيا من منظور بريكس
تتبوأ إيران، من منظور بريكس، مكانةً محوريةً كلاعب رئيسي في مكافحة الإرهاب (على شاكلة تنظيم داعش) وضمان أمن الطاقة، وتضفي عضويتها في منظمة شنغهاي للتعاون (SCO) وبريكس، مزيداً من الرسوخ على هذه المكانة المرموقة.
كما أن إحكام إيران قبضتها على مضيق هرمز، الشريان الحيوي للملاحة العالمية، ودورها المؤثر في سوق النفط يجعلانها شريكاً أمنياً-اقتصادياً لا غنى عنه لمجموعة بريكس، ويمكن لتضافر جهود إيران مع الصين وروسيا في مشاريع الطاقة العملاقة، أن يكفل أمن إمدادات الطاقة لأعضاء بريكس.
من ناحية أخرى، تزخر إيران بقدرات سيبرانية متقدمة تؤهلها للاضطلاع بدور فاعل في تعاون بريكس في مجال الأمن السيبراني، وخير شاهد على ذلك توقيعها اتفاقية إنشاء مركز مكافحة الإرهاب السيبراني بالتعاون مع الهند وجنوب أفريقيا في عام 2024.
وخلاصة القول، إن مجموعة بريكس تتحول بخطى ثابتة إلى قطب أمني مستقل، حيث تستطيع إيران، بما حباها القدر من موقع استراتيجي فريد، وما تزخر به ترسانتها من قدرات عسكرية متطورة، وما تبسطه من نفوذ في بؤر الأزمات الإقليمية، أن تضطلع بدور محوري في تحقيق الأهداف الأمنية لهذا التكتل الدولي الصاعد، الذي يشقّ طريقه بثبات نحو مستقبل واعد.