الوقت- في ظل تحولات متسارعة على المستويين الإقليمي والدولي، جاءت زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى الجزائر لتعكس ديناميكية متجددة في العلاقات الثنائية بين البلدين، وتؤكد الطابع الاستراتيجي الذي أصبحت تكتسيه الشراكة الجزائرية – التركية، هذه الزيارة لم تكن زيارة بروتوكولية تقليدية، بل حملت رسائل سياسية واقتصادية عميقة، أبرزها الاتفاق على رفع سقف التبادل التجاري بين البلدين إلى 10 مليارات دولار، وهو ما يعكس الإرادة السياسية القوية لتعزيز العلاقات الاقتصادية وتوسيع مجالات التعاون بين البلدين.
تاريخ مشترك يفتح أبواب المستقبل
تعود العلاقات بين الجزائر وتركيا إلى قرون مضّت، حين كانت الجزائر ولاية عثمانية، وهو ما خلق أرضية ثقافية وإنسانية مشتركة لا تزال آثارها قائمة حتى اليوم في العمران، والعادات، واللغة، غير أن هذه العلاقات انطلقت من جذور تاريخية وتتحرك بثقة نحو المستقبل وشهدت تطوراً نوعياً في العقود الأخيرة، ولا سيما منذ بداية الألفية الثالثة، حيث أظهرت أنقرة اهتماماً متزايداً بتعميق وجودها في شمال إفريقيا، فيما سعت الجزائر إلى تنويع شراكاتها الدولية بشكل بعيد عن التقاليد الأوروبية.
وقد لعبت الزيارات الرسمية المتبادلة بين قيادتي البلدين دوراً كبيراً في ترسيخ هذا التقارب، وخصوصاً منذ إنشاء "مجلس التعاون رفيع المستوى" في عام 2018، الذي أسس علاقات البلدين ضمن إطار استراتيجي واضح، يُعزز التعاون في مجالات متعددة تتراوح بين الاقتصاد، والتعليم، إلى جانب السياسة والطاقة.
يعتبر الاقتصاد بمثابة العمود الفقري للعلاقات الثنائية
كان الاقتصاد في صدارة زيارة فيدان، حيث ناقش مع نظيره الجزائري أحمد عطاف ومع كبار المسؤولين سبل تطوير التعاون الاقتصادي والتجاري، ورفع قيمة المبادلات التجارية من 5.3 مليارات دولار إلى 10 مليارات، هذا الرقم لا يُعد طموحاً وحسب، بل ضرورياً في ضوء الإمكانيات الاقتصادية الكبيرة التي يتمتع بها البلدان، وحجم السوق الجزائرية التي تُعد الأكبر في شمال إفريقيا.
تركيا اليوم تُعتبر واحدة من أكبر المستثمرين في الجزائر خارج قطاع المحروقات، حيث بلغت استثماراتها أكثر من 5 مليارات دولار، موزعة على قطاعات متعددة أبرزها: الحديد والصلب، النسيج، الصناعات الغذائية، والإنشاءات، كما تنشط أكثر من 1400 شركة تركية في الجزائر، وتوفر فرص عمل لآلاف المواطنين الجزائريين، ما يجعل من تركيا شريكاً اقتصادياً ذا تأثير مباشر في التنمية المحلية.
إلا أن بعض المراقبين يشيرون إلى عدم توازن نسبي في الميزان التجاري، حيث تظل الجزائر مصدراً رئيسياً للغاز الطبيعي المسال نحو تركيا، في حين تتركز الصادرات التركية في المواد الصناعية والغذائية، من هنا، يأتي السّعي التركي لتوسيع صادراته وتوسيع استثماراته في قطاعات جديدة مثل الطاقة المتجددة، والسياحة، والتكنولوجيا.
التعاون الجزائري – التركي: طموحات كبيرة في وجه تحديات واقعية
رغم وجود إطار تعاون سياسي واقتصادي متين، تبقى هناك بعض التحديات التي قد تعيق الوصول إلى الأهداف المعلنة، على رأسها: البيروقراطية، تعقيد الإجراءات الإدارية، والحاجة إلى تحديث الإطار القانوني للاستثمار بما يتلاءم مع متطلبات المستثمرين الأجانب، كما أن توسيع حجم التبادل التجاري يتطلب تطوير البنية التحتية اللوجستية، وتسهيل الحركية البنكية والمالية، بالإضافة إلى تعزيز التعاون الأكاديمي والمهني لتأهيل الكفاءات.
من ناحية أخرى، فإن فرص التكامل بين البلدين تبقى واعدة، الجزائر، بمواردها الطبيعية الهائلة وموقعها الاستراتيجي كبوابة إلى إفريقيا، وتركيا، بخبرتها الصناعية والتكنولوجية وشبكة علاقاتها الواسعة، يُمكنهما بناء نموذج شراكة جنوب–جنوب ناجح، يُعيد رسم ملامح التعاون الإقليمي، ويقوي المصالح المشتركة بعيداً عن التقلبات السياسية العالمية.
رؤية موحدة تجمع الجزائر وتركيا في ملفات المنطقة
الرؤية الموحدة للعلاقات الجزائرية – التركية لا تقتصر على الاقتصاد فقط، بل تمتد لتشّمل قضايا إقليمية حسّاسة مثل الأزمة الليبية، خلال زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى الجزائر، اتفق الطرفان على ضرورة التوصل إلى تسوية سياسية تحافظ على وحدة ليبيا بعيداً عن التدخلات الأجنبية.
هذا التنسيق يعكس تحالفاً مستمراً بين البلدين بشأن قضايا المنطقة، وخاصة في ظل التحديات الأمنية في منطقة الساحل الإفريقي، الجزائر وتركيا تلعبان دوراً محورياً في تعزيز الاستقرار الإقليمي من خلال التعاون الأمني والاستخباراتي، مستفيدتين من موقعهما الاستراتيجي وتجربتهما في الوساطة.
نحو محور توازن إقليمي جديد
وسط تعقيدات المشهد الإقليمي وتزايد التدخلات الخارجية، تبرز إمكانيات حقيقية لتقارب ثلاثي بين الجزائر وتركيا وإيران، يقوم على أسس السيادة، وتعدد الأقطاب، ورفض الهيمنة، فكل من هذه الدول تمتلك موقعاً استراتيجياً، ورؤية مستقلة في السياسة الخارجية، وتجربة خاصة في بناء التوازنات دون الخضوع للإملاءات الخارجية.
هذا التقارب لا يعني بالضرورة تشكيل محور مغلق، بل يفتح الباب أمام بناء منظومة إقليمية عقلانية، تتعامل مع الأزمات بالحوار، وتطرح حلولاً واقعية من داخل المنطقة نفسها، وبهذا، يمكن للجزائر وتركيا، بالتنسيق مع إيران، أن تساهم في بلورة خطاب سياسي جديد، أكثر استقلالاً وإنصافاً، يُعيد رسم توازنات الإقليم على أسس عادلة وشاملة.
في النهاية، تعكس زيارة هاكان فيدان إلى الجزائر انتقال العلاقات الجزائرية – التركية إلى مرحلة أكثر نضجاً وواقعية، تقوم على إدراك مشترك لتحديات الإقليم، وسعي متوازن لبناء شراكة متعددة المستويات، وإذا ما تم تفعيل ما تم الاتفاق عليه، فإن ذلك لا يعزز فقط المصالح الثنائية، بل يُمهّد لتشكيل منظومة إقليمية مستقلة وفاعلة، تنسجم مع رؤية دول مثل إيران، التي طالما دافعت عن نظام إقليمي يقوم على السيادة، والتعاون، ورفض التبعية، فهذا التقارب، إذا ما استُثمر بحكمة، يمكن أن يُعيد التوازن في المنطقة، ويمنح شعوبها فرصة لاستعادة زمام المبادرة بعيداً عن الهيمنة الخارجية.