الوقت- منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزة في أكتوبر 2023، لم تتوقف محاولات الاحتلال لاستخدام أدوات نفسية وسياسية جديدة إلى جانب آلته العسكرية. وبينما كانت الطائرات تدمر، والحصار يخنق، والمجاعة تفتك، انطلقت حملة منظمة عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي تروّج لما سمي بـ"الهجرة الجماعية الطوعية" من قطاع غزة. هذه الحملة لم تكن وليدة الصدفة، بل تأتي كجزء من مخطط صهيوني قديم - متجدد - يهدف إلى تفريغ الأرض من سكانها الفلسطينيين الأصليين تحت ضغط السلاح والجوع واليأس.
في هذا السياق، سنحاول تفكيك أبعاد هذه الحرب النفسية، رصد الأدوات المستخدمة، قراءة المواقف الرسمية، وفهم السياق الإقليمي والدولي لهذه المحاولة الجديدة لاقتلاع الفلسطينيين من وطنهم.
بداية القصة – كيف ظهرت شائعات الهجرة؟
في الأيام الأخيرة، اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي، ووسائل إعلام فلسطينية وعربية ودولية، موجة ضخمة من الأخبار والشائعات حول فتح معابر إسرائيلية لتسهيل هجرة آلاف الغزيين إلى دول عربية وأوروبية.
وتحدثت الروايات المتداولة عن تسهيلات كبيرة تقدم عبر مطار "رامون" الإسرائيلي، وعن سفر عائلات فلسطينية إلى دول مثل مصر، تركيا، قطر وألمانيا.
لكن ما بدا ظاهريًا وكأنه فرصة للخلاص من جحيم الحرب، سرعان ما كشف عن حقيقة أكثر خطورة، مدعومة بتقارير وتحقيقات ميدانية.
الأدوات الخفية.. كيف تلاعب الاحتلال بالحقائق؟
تشير التحقيقات إلى أن الموساد الإسرائيلي يقف خلف الحملة النفسية، عبر عدة أدوات: استخدام شخصيات جدلية: مثل محامٍ إسرائيلي يدعى "يورام يهودا"، رُوج له كوسيط للهجرة، رغم أنه مختص في قضايا الطلاق، لا الهجرة.
نشر وثائق مزيفة: تضمنت توكيلات قانونية وهمية تمنح الاحتلال صلاحيات على ممتلكات الغزيين.
أرقام هواتف مشبوهة: روّجت عبر رسائل نصية تدعو الفلسطينيين للتواصل مع "ضباط تنسيق" إسرائيليين.
شبكات نصب واستغلال: عبر ما عُرف إعلاميًا بـ"خلية أفيخاي"، التي نشطت في ترويج الهجرة المزعومة.
بحسب الشهادات، كان الهدف الحقيقي من هذه الحملات ليس فقط تجنيد عملاء، بل تفكيك النسيج الوطني الفلسطيني، وضرب الروح المعنوية الجماعية.
موقف حكومة غزة - الرد السريع لكشف الخدعة
في مواجهة هذه الحرب النفسية، سارع المكتب الإعلامي الحكومي في غزة لإصدار بيان واضح، حذّر فيه من الانجرار خلف هذه الشائعات.
وأكد البيان أن الأنباء المتداولة عارية تمامًا عن الصحة، وأن الاحتلال يحاول تمرير مخططه عبر "أساليب ناعمة" بعدما فشل بالقوة في فرض التهجير الجماعي.
وأوضح المكتب أن الحالات القليلة التي غادرت القطاع، كانت لأسباب طبية عبر معبر كرم أبو سالم، وليست عمليات هجرة.
كما شدد على أن "الهجرة من الوطن في ظل الاحتلال ليست خيارًا آمنًا، بل فخ مميت يقود إلى التجنيد أو الاعتقال أو حتى القتل".
العودة إلى جذور الفكرة.. التهجير كعقيدة صهيونية
تاريخيًا، لم يكن حلم كيان الاحتلال الاسرائيلي بتفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها أمرًا جديدًا. منذ النكبة عام 1948، سعى المشروع الصهيوني إلى إخلاء الأرض الفلسطينية عبر المجازر والتهجير القسري. اليوم، يعود السيناريو ذاته بأدوات حديثة: الجوع، القصف العشوائي، والمجازر الجماعية، مع تطعيمه بالدعاية الناعمة لـ"الهجرة الآمنة".
في هذا السياق، تذكرنا خطة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، حين أعلن في البيت الأبيض عام 2020 عن نيته "امتلاك غزة" واقتراح نقل الفلسطينيين إلى دول مجاورة كالأردن ومصر، وهو ما رفضته تلك الدول بشدة، كما رفضته شعوبها والمنظمات الدولية.
الدور الأمريكي.. الدعم الكامل للمخطط الإسرائيلي
لا يمكن قراءة هذا المخطط دون الإشارة للدور الأمريكي في تغطيته وحمايته من خلال تقديم دعم سياسي وعسكري غير محدود: منذ بدء العدوان، قدمت إدارة بايدن دعمًا عسكريًا غير مسبوق لإسرائيل.
حماية دبلوماسية منعت أمريكا صدور قرارات إدانة لإسرائيل في مجلس الأمن أكثر من مرة.
خطط ما بعد الحرب: كشفت تقارير أن واشنطن تناقش سيناريوهات "ما بعد حماس"، تتضمن احتمال تهجير سكان غزة.
فالدعم الأمريكي يرسخ فكرة أن المخطط التهجيري جزء من سياسة استراتيجية طويلة الأمد، لا مجرد تكتيك ظرفي.
الأثر على المجتمع الغزي – استنزاف نفسي وأزمات إنسانية
تسببت هذه الحملة النفسية المنظمة في:
زيادة مشاعر القلق واليأس لدى السكان، خصوصًا في ظل المجاعة والأوضاع الإنسانية الكارثية.
اهتزاز ثقة البعض بالمستقبل الوطني مع تصاعد الأحاديث عن "عدم جدوى الصمود".
محاولات يائسة للهروب لدى بعض الفئات الأكثر ضعفًا (كالمرضى والجرحى).
لكن في المقابل، ظهرت حملات شعبية معاكسة تؤكد على "الرباط والبقاء"، وشعارات مثل: "غزة ليست للبيع"، و"لن نترك أرضنا مهما كان الثمن".
الموقف العربي والدولي - بين الرفض والتخاذل
رغم الرفض الرسمي العربي لفكرة تهجير الغزيين، إلا أن الأداء العملي كان خجولًا حتى الآن.
فباستثناء تصريحات مصرية وأردنية حاسمة برفض توطين الفلسطينيين، لم تُترجم المواقف إلى خطوات دولية صارمة ضد المخطط الإسرائيلي.
أما الأمم المتحدة، رغم التحذيرات، إلا أن ضعف أدوات الضغط على إسرائيل، وتواطؤ بعض الأطراف الغربية، جعل الموقف الدولي أقرب للصمت منه للردع الحقيقي.
ختام القول
بين صمود غزة ومخططات الاقتلاع يبقى الرهان الحقيقي الآن ليس فقط على فشل المخطط الإسرائيلي بل على قدرة الفلسطينيين أنفسهم - شعبًا وفصائل ومؤسسات - على الصمود بوجه الحرب النفسية الأشد ضراوة منذ النكبة.
في ظل قصف متواصل، مجاعة خانقة، وخراب عمراني شبه كامل، يقف أهل غزة أمام خيارين:
إما الانجرار إلى وهم الهجرة المسمومة، وهو ما تسعى إليه إسرائيل بكل أدواتها.
أو التمسك بالأرض، حتى لو كانت الركام وحده، حفاظًا على آخر معقل للفلسطينيين في وجه المشروع الاستيطاني. و في النهاية، يتجدد سؤال المصير، هل ستنتصر نار الاحتلال وسموم شائعاته؟ أم سينتصر إيمان الفلسطينيين العميق بوطن لا بديل عنه مهما اشتدت النكبات؟
الأيام القادمة ستجيب.. ولكن غزة تعودت أن تكتب أجوبتها بالدم والصمود، لا بالهجرة والهوان.