الوقت - في مشهد غير مسبوق منذ عقود، وجدت العلاقات بين فرنسا والكيان الصهيوني نفسها على حافة أزمة دبلوماسية عميقة، بعد أن قررت السلطات الإسرائيلية إلغاء تأشيرات دخول لـ27 نائباً ومسؤولاً محلياً فرنسياً، قبل يومين فقط من موعد زيارتهم المقررة إلى "إسرائيل" والأراضي الفلسطينية.
قرار فجائي، أثار ضجةً داخل الأوساط السياسية الفرنسية، وترجم فوراً إلى احتجاجات حادة، ورسائل مباشرة إلى قصر الإليزيه تطالب بالرد الفوري.
الوفد الفرنسي، الذي كان يضم نواباً من الحزبين البيئي والشيوعي، إضافة إلى رؤساء بلديات ومسؤولين يساريين محليين، كان يعتزم زيارة مناطق داخل "إسرائيل" والضفة الغربية ضمن مهمة "لتعزيز التعاون الدولي ونشر ثقافة السلام"، بدعوة رسمية من القنصلية الفرنسية في القدس، غير أن قرار المنع، الذي استند إلى قانون إسرائيلي يتيح حظر دخول أشخاص "يُحتمل أن يتصرفوا ضد الدولة"، لم يُقدَّم معه أي تفسير مفصل، ما جعله يبدو وكأنه "عقاب جماعي" كما وصفه أعضاء الوفد.
فرانسوا روفان، أليكسي كوربيير، سوميا بوروها، ماريان مارغيت وآخرون، وجدوا أنفسهم في قلب صراع دبلوماسي، عبّروا عنه ببيان غاضب وصفوا فيه الإجراء بـ"القطيعة الكبرى في العلاقات الدبلوماسية"، وطالبوا الرئيس إيمانويل ماكرون بالتدخل شخصيًا، مشددين على أن منع مسؤولين منتخبين من دخول إسرائيل "لا يمكن أن يمرّ بلا عواقب".
ماكرون ومشروع الاعتراف بدولة فلسطين
القرار الإسرائيلي لم يكن معزولًا عن السياق السياسي الأوسع، ففرنسا، التي لطالما اتخذت موقفًا متزنًا في النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، باتت اليوم تُلمّح بوضوح إلى نية الاعتراف بدولة فلسطينية، وهو ما أكده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخرًا بقوله: "سأقوم بذلك عندما أراه عادلاً، لأنني أريد المساهمة في دينامية جماعية"، هذا التصريح كان كافيًا لإشعال غضب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي وصف أي اعتراف من هذا النوع بأنه "مكافأة هائلة للإرهاب".
تصدع في العلاقات الأوروبية الإسرائيلية؟
ليست فرنسا وحدها في مرمى هذا التصعيد الإسرائيلي، فقد سبقتها بريطانيا، عندما منعت تل أبيب دخول نائبين من حزب العمال الحاكم، وكذلك منعت في وقت سابق نائبتين من البرلمان الأوروبي، إحداهما فرنسية-فلسطينية والأخرى إيرلندية، هذه السلسلة من الخطوات المتتالية تثير تساؤلات حول ما إذا كانت "إسرائيل" تتجه نحو سياسة ممنهجة لإسكات الأصوات الأوروبية المعارضة لنهجها، وخصوصًا تلك المتعاطفة مع الحقوق الفلسطينية.
ويؤكد محللون أن ما جرى مع الوفد الفرنسي ليس فقط مسألة تأشيرات، بل مؤشر على "نقلة نوعية في تعامل إسرائيل مع شركائها الأوروبيين، تقوم على منطق الضغط والعقاب بدل الحوار والدبلوماسية".
ردود فعل وتحليلات: "أزمة ثقة وانفجار وشيك"
المحلل الفرنسي فيليب مورو ديفارج وصف القرار الإسرائيلي بأنه "صفعة مباشرة لمؤسسات الجمهورية الفرنسية"، مشيرًا إلى أن منع نواب منتخبين من دخول الأراضي التي دُعوا إليها بموجب مهمة سلمية هو تجاوز لكل الأعراف الدبلوماسية، بينما اعتبرت الباحثة سيلين براهيمي أن ما نشهده هو "لحظة توتر غير مسبوقة" تضع باريس أمام خيارين: إما التهدئة بشروط إسرائيل، أو الانخراط في تصعيد يعيد رسم خريطة العلاقات الفرنسية مع الشرق الأوسط.
من جهته، رأى جان-إيف كامو أن استهداف النواب اليساريين المؤيدين للقضية الفلسطينية يندرج ضمن سياسة "العقاب الجماعي"، التي تنذر بمواجهة مفتوحة مع فرنسا إن لم يتم تطويقها بسرعة.
انعكاسات محتملة: مزيد من العزلة لتل أبيب؟
يرى مراقبون أن تل أبيب تغامر بعزل نفسها عن شركاء استراتيجيين في أوروبا، في وقت تحتاج فيه بشدة إلى دعمهم في ملفات دولية كبرى، فإلى جانب التدهور المتسارع في العلاقة مع باريس، بدأت تسود أجواء من الحذر في لندن وبروكسل، بفعل الخطوات الإسرائيلية الأخيرة ضد برلمانيين أوروبيين.
ولا يستبعد كثيرون أن تكون هذه الأزمة نقطة تحول قد تدفع فرنسا لاتخاذ خطوات أكثر جرأة تجاه الاعتراف بدولة فلسطين، في خطوة قد تفتح الباب أمام دول أوروبية أخرى للحذو حذوها.
يبقى السؤال معلقاً: هل ما يجري هو مجرد سحابة صيف دبلوماسية، أم إننا أمام تحوّل جذري في علاقة فرنسا بـ"إسرائيل"؟ في ظل التصريحات المتبادلة، والقرارات المفاجئة، والتحركات الفرنسية الأخيرة، يبدو أن باريس قد بدأت فعلياً بإعادة تموضعها في الشرق الأوسط، وإذا لم يتم احتواء هذا التوتر، فإن العلاقات الفرنسية الإسرائيلية قد تكون على موعد مع أزمة قد تُغيّر من ملامح المشهد الدبلوماسي الإقليمي لعقود قادمة.