الوقت - محافظة المهرة الواقعة في شرق اليمن، على الحدود مع سلطنة عمان، والتي بقيت طوال سنوات بعيدةً عن فصول النزاع الدامي الذي مزّق البلاد، باتت اليوم مسرحاً لتوترات متصاعدة، اندلعت شرارتها عقب اعتقال أحد شيوخ المنطقة البارزين.
ففي يوم الاثنين، السابع من يوليو، أُلقي القبض على الشيخ محمد أحمد الزايدي عند معبر “صرفيت” الحدودي أثناء محاولته مغادرة اليمن باتجاه سلطنة عمان، وبعد اعتقاله، تعرض الموكب الأمني الذي كان ينقله إلى مدينة الغيضة، عاصمة محافظة المهرة، لهجوم من قبل مسلحين قبليين، ما أسفر عن مقتل ضابط حكومي وإصابة عدد من الأشخاص بجروح.
اشتعلت المواجهات في أعقاب هذا الحادث، ما أثار مخاوف من تصاعد التوترات واتساع رقعة اللااستقرار في المنطقة، وقد بررت اللجنة الأمنية في المهرة عملية اعتقال الشيخ الزايدي بأنها جاءت وفق القانون، حيث أُدرج اسمه ضمن قائمة المطلوبين للعدالة، بهدف التحقق من هويته ووضعه القانوني.
وادعت اللجنة الأمنية أن الزايدي يُعد من شيوخ قبائل خولان ومأرب البارزين، ممن سبق لهم المشاركة في تجمعات مسلحة داعمة لأنصار الله، بل إنه اشتهر بخطبه التي تحثّ أبناء القبائل على الانضمام إلى صفوف الحركة، وهو ما جعله مطلوباً لدى الحكومة الشرعية في اليمن.
نُقل الزايدي إلى إدارة أمن الغيضة، وسط إجراءات أمنية مشددة، فيما بدأت جهود الوساطة من قبل شيوخ القبائل والشخصيات المؤثرة، سواء من داخل المحافظة أو خارجها، سعياً للإفراج عنه، إذ يُنظر إليه باعتباره رمزاً قبلياً ذا مكانة ونفوذ.
وفي الوقت ذاته، أفادت مصادر محلية بوصول عشرات المركبات المحملة بالمسلحين من قبائل خولان ومأرب إلى المهرة، محذرةً من احتمالية وقوع مواجهات بين هؤلاء المسلحين والقوات الأمنية والجيش.
إن استقرار محافظة المهرة يُعدّ مسألةً ذات أهمية بالغة بالنسبة لسلطنة عمان، التي تتشارك حدوداً طويلةً مع هذه المحافظة، ولذا، فإن استمرار التصعيد في المهرة يثير قلقاً من تداعياته على الأمن والاستقرار في المنطقة.
المهرة: واحة الأمن النسبي في قلب العاصفة اليمنية
ظلت محافظة المهرة عبر السنوات الماضية تنعم بهدوء نسبي، بعيدةً عن أتون الحرب التي اجتاحت اليمن وحصدت، حسب تقارير الأمم المتحدة لعام 2021، أرواح ما يزيد على 377 ألف شخص، ومع ذلك، لم تكن المهرة بمنأى تماماً عن التوترات، التي كانت تظهر بين الحين والآخر نتيجة مساعٍ من بعض القوى، ولا سيما المجلس الانتقالي الجنوبي، لتوسيع نفوذها داخل هذه البقعة الهادئة.
وفي مواجهة هذه المحاولات، نهض سكان المهرة بتشكيل لجنة سلمية تسعى للتصدي لأي وجود عسكري أجنبي يهدّد أمنهم، وقد حظيت هذه اللجنة بدعم سلطنة عمان، التي تربطها علاقات طيبة بالحكومة الشرعية وبالقيادات المحلية في المحافظة.
وعلى خلاف ما تدعيه بعض الجهات الحكومية في المهرة، اتخذت قبائل المحافظة موقفاً متوازناً خلال الحرب اليمنية، متجنبين الانحياز إلى أي طرف، فرغم أنهم لم يُعلنوا تأييدهم الرسمي لأنصار الله، فإنهم في الوقت نفسه رفضوا التعاون مع المجلس الانتقالي الجنوبي، وكذلك مع مجلس القيادة الرئاسي الموالي للإمارات والسعودية.
هذا الحياد المدروس جعل المهرة في منأى عن الصراعات العنيفة والأزمات الأمنية التي أرهقت المحافظات الأخرى، إذ لعبت رغبة القبائل في الحفاظ على السيادة المحلية ورفض التدخلات الأجنبية، دوراً محورياً في إرساء الاستقرار النسبي بالمنطقة طوال سنوات الحرب.
ورغم محاولة اللجنة الأمنية في المهرة تبرير اعتقال الشيخ محمد أحمد الزايدي بدواعٍ أمنية، فإن توقيت العملية والظروف المحيطة بها يشيران إلى أهداف تتجاوز البُعد القانوني البحت، وتكشف عن أيدٍ خارجية تعبث بخيوط اللعبة.
يرى الدكتور عادل دشيلة، الباحث في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة كولومبيا، أن التوترات الحالية في المهرة لم تنشأ بين ليلة وضحاها، بل هي نتاج عقدٍ من التنافس الإقليمي، وفي حديثه مع “الخليج أونلاين”، أوضح أن المهرة أصبحت ميداناً لصراع بين قوى إقليمية، ما أفرز تحالفات محلية متباينة، وأشار إلى وجود لاعبين متعددين في المحافظة، من بينهم المجلس الانتقالي الجنوبي، ولجنة اعتصام المهرة بقيادة الشيخ علي سالم الحريزي، إضافةً إلى قوات موالية للحكومة الشرعية.
ويعتقد دشيلة أن مستقبل الأزمة في المهرة مرهون بمواقف قبائلها، محذراً من أن اشتداد التوتر قد يؤدي إلى خروج زمام الأمور من أيدي القبائل، كما أشار إلى أن السيناريو الآخر يتمثل في الحوار والمصالحة، وهو ما يجري العمل عليه حالياً، مع احتمال تدخل سلطنة عمان والسعودية كوسيطين للإفراج عن الشيخ الزايدي.
لكنه في الوقت ذاته حذّر من أن الإفراج عن الزايدي دون معالجة جذرية للأزمة، وخاصةً بعد مقتل أحد القادة العسكريين، قد يشعل ردود فعل غاضبة وغير متوقعة، ما قد يفتح الباب أمام تصعيد جديد يُهدد الاستقرار النسبي الذي تنعم به المحافظة.
فتنة الخارج لتقويض أنصار الله: مؤامرة تُنسج خيوطها في ظلال الأطماع الدولية
ظلت محافظة المهرة بعيدةً عن لهيب الحرب المباشرة سنوات طوال، تنعم بثبات نسبي وسط أتون الأزمات. غير أن التحركات الأخيرة باتت تهدد هذا الاستقرار الهش، فتحول المهرة إلى بؤرة جديدة للفوضى والاضطراب، وقد أضحت التدخلات السياسية الداخلية، المدعومة بقوى خارجية، وقوداً يُذكي نار الصراعات القبلية والسياسية، ويلقي بمستقبل هذه المحافظة الاستراتيجية في غياهب المجهول.
منذ فترة أعلنت الولايات المتحدة عزمها على إنشاء قاعدة عسكرية في المهرة، تلك المحافظة التي تحتل موقعاً استراتيجياً، في خطوة مدعومة من السعودية، تهدف إلى تعزيز نفوذ واشنطن في هذه المنطقة، وما يبدو جلياً أن هذه التحركات ليست إلا جزءاً من مخطط أوسع لزعزعة استقرار اليمن، مخطط تتجلى مظاهره في تأجيج الصراعات القبلية وإشعال فتيل الفوضى الداخلية، هذا النهج يكشف عن مساعي الأطراف الخارجية لاستغلال التصدعات الاجتماعية والعرقية لتحقيق مصالحها.
إن الولايات المتحدة وحلفاءها العرب، وعلى رأسهم السعودية والإمارات، الذين أربكتهم ضربات أنصار الله المتواصلة على السفن الغربية في مياه البحر الأحمر، يسعون الآن إلى نقل ساحة المواجهة إلى الداخل اليمني، وبعد أن أخفقوا في كبح جماح أنصار الله عبر الهجمات العسكرية المباشرة والعقوبات الاقتصادية، لجؤوا إلى استراتيجية جديدة، تتلخص في إشعال الفتن الداخلية، وخاصةً في المحافظات الحدودية مثل المهرة، أملاً في تغيير موازين القوى لمصلحتهم.
إن خلق الفوضى الأمنية، وتحريض القبائل، واستغلال النزاعات المحلية، يمثّل وجهاً جديداً من حرب الاستنزاف التي تهدف إلى إضعاف جبهة المقاومة، وجرّ أنصار الله إلى صراعات داخلية تُشتت تركيزهم عن مواجهة الهيمنة الخارجية، هذه التحركات تكشف عن عجز المحور الغربي-العربي عن تحقيق أهدافه الميدانية في اليمن، ما دفعه إلى استخدام أدوات غير مباشرة تسعى إلى تفكيك اللحمة الداخلية لجبهة المقاومة، وزرع الشقاق في المناطق المستقرة نسبياً.
في المقابل، لم يهدأ أعداء اليمن عن محاولاتهم لإقصاء أنصار الله من المشهد السياسي، حيث شهدت الأشهر الماضية تحركات من قبل قوات المجلس الانتقالي الجنوبي ومجلس القيادة الرئاسي، بدعم من الإمارات والولايات المتحدة، لتخطيط هجوم بري على صنعاء، في محاولة لمواجهة أنصار الله مباشرةً، لكن هذه المخططات بقيت حبيسة الأدراج، خشية الفشل في مواجهة حكومة صنعاء، بعدما أثبتت سنوات الحرب الطويلة قدرة أنصار الله على الصمود رغم الضغوط الهائلة.
إن أنصار الله لم يكتفوا بتوجيه ضربات موجعة إلى الولايات المتحدة وحلفائها في الميدان العسكري، بل نجحوا أيضاً في إرساء دعائم الاستقرار في المناطق الواقعة تحت سيطرتهم، وهو ما عجز عنه خصومهم الذين يدّعون دعم الشعب اليمني، ففي حين تنعم المناطق الشمالية باستقرار نسبي، تغرق المناطق الجنوبية الواقعة تحت الاحتلال في دوامة من الصراعات المستمرة بين الميليشيات الموالية للسعودية والإمارات، تتنازع فيها على الغنائم والمناصب، ما يفاقم حالة الفوضى وعدم الاستقرار.
هذا التباين الواضح بين إدارة أنصار الله المتماسكة، وبين فوضى القوى الموالية للتحالف، يكشف عن عمق الاختلاف في القيادة والرؤية، ويُبرز تفوق جبهة المقاومة في الحفاظ على وحدة الصف الداخلي مقابل انهيار القوى التابعة للخارج.
ختامًا يمكن القول إن التصعيد الأخير في محافظة المهرة ليس إلا جزءاً من مخطط يهدف إلى زعزعة استقرار اليمن، وجرّ أنصار الله إلى صراعات داخلية تصرفهم عن عملياتهم الناجحة في البحر الأحمر ضد الأهداف الصهيونية والأمريكية.