الوقت – أنا صحفيٌّ؛ صحفيٌّ أضناه التعب، لكنه ما برح واقفاً، ما زلتُ هنا، كغزّة؛ رغم الأطلال، رغم الأوجاع، رغم الجراح، ما زلتُ هنا؛ كغزّة؛ نصف حيٍّ، نصف محترق، منحني القامة، لكن شامخ الهامة، صلب العود، نابض الحياة…
أنا صحفيٌّ؛ صحفيٌّ فارق الحياة مع كل خبر استشهاد نشره عن أبناء وطنه؛ ثم انبعث كالعنقاء من رماده كي لا تخبو جذوة الروايات عن الهجمات الوحشية المتتالية للشيطان على أرواح أبناء شعبه، كي لا تُوارى في ثرى النسيان آلاف القصص المريرة الموجعة لفناء شعبه تحت وابل القذائف والصواريخ، تحت أنقاض الطوب والإسمنت والحديد، وفي ظل صمت العالم الغريب المرعب المتفرج…
أنا صحفيٌّ؛ أحمد منصور؛ أنا الذي لقي حتفه واحداً وخمسين ألف مرة؛ مع كل روح غزّية أزهقت، أنا الذي استوطن قلبه مئة وستة عشر ألفاً وخمسمئة جرح؛ مع كل إصابة لعزيز؛ لابن مدينتي…
أنا صحفيٌّ؛ راوي ملاحم الموت والحياة المريرة في غزّة؛ راوي المعارك غير المتكافئة في البقعة المضرّجة بالدماء، راوي ثمانية عشر شهراً من زمجرة السماء التي لا تنقطع، حيث مع كل تحليق مرعب لطائرة حديدية، تمطر النار والحديد والرصاص المنصهر على رؤوس المدينة وفلذات أكبادها…
ولِمَ نذهب بعيداً، فأنا بذاتي خبرٌ؛ خبرٌ يتلوّى بين ألسنة النيران المستعرة؛ نارٌ تسري بسرعة إلى جسدي المنهك وتتصاعد، وتُسمِع أذني المتعبة صوت احتراق أنسجتي الهزيلة؛ نار الصاروخ الذي استهدف في جوف الليل ملاذنا الوحيد في أطلال غزّة؛ خيمة الصحفيين…
صحفيو غزّة، اليوم أيضاً كما في كل الأيام الخمسمئة والثمانية والثلاثين الماضية، بقلوبٍ دامية وقاماتٍ باسقة، يحملون الكاميرات والأقلام، يتنقلون بين الأنقاض، وسط عويل الأمهات الثكالى، والآباء الصابرين منحنيي الظهور، والأطفال المزهقة أرواحهم الملطخين بالتراب والدماء، ينقلون الجراح والآلام المغبّرة كلمةً بكلمة، إطاراً بإطار، ولقطةً بلقطة إلى العالم، إلى العالم الصامت؛ العالم المتفرج…
لكن الليلة كانت ليلتهم؛ ليلة الصحفيين؛ ليلتنا؛ ليلةٌ يُطلق فيها صحفيٌّ غزّي آخر سهم في جعبته ويرسل كلماته الأخيرة وصوره الأخيرة نحو عدسة الكاميرا…
الليلة، كانت ليلتنا؛ ليلةً أطلقنا فيها آخر سهم في جعبتنا؛ آخر الكلمات، آخر اللقطات والصور، آخر الروايات…
“الأخير” في غزّة بالنسبة للصحفي يعني هدير صاروخ بوزن أطنان يشقّ عباب الهواء بسرعة الضوء ويطيِّر النوم من مآقي المدينة، وفي طرفة عين يصل إلى الخيمة البيضاء البرزنتية الصغيرة؛ إلى خيمة الصحفيين الذين أضناهم تعب يوم آخر دامٍ مؤلم وأسدلوا جفونهم المنتفخة على عيونهم الحمراء…
تجاوز الليل سدوله؛ الصحفيون بين سِنة ويقظة وأنا؛ ما زلتُ جالساً على الكرسي الوحيد في زاوية الخيمة أستنطق ذهني المتعب؛ أبحث عن أنفس الكلمات؛ أبدع الصور… رغم أن في غزّة كل الكلمات، كل الصور؛ متشابهة؛ تشبه التراب والدم والدخان والألم والدموع والدمار… لكنني ما زلت أبحث عن صورةٍ حين تقترن بإحدى روايات غزّة المريرة هذه الأيام، توجع قلباً من قلوب أهل العالم؛ من حكّام البلدان الإسلامية؛ تحرق قلب حرٍّ، إنسان؛ تمزق كبداً؛ تضرم نخوةً؛ ترفع رايةً وتوقظ منقذاً ومخلِّصاً وترسل جيشاً…
أبحث عن أعمق صورة. فلم تحرّك أيٌّ من آلاف الصور التي وجدت طريقها من غزّة إلى وسائل الإعلام على مدى أكثر من خمسمئة يوم مضى؛ إلى وسائل الإعلام الافتراضية وغير الافتراضية؛ الرسمية وغير الرسمية، لم تحرّك تأوهاً أو ناراً، لم ترفع رايةً أو تطلق سيلاً أو جيشاً أو زئيراً يأخذ طريق غزّة الدامية الضيق ويتدفق نحوها كالطوفان ويكسر جدرانها وأسلاكها وحصارها، وينقذ أهلها العطشى الجوعى المضرجين بالدم!..
لم تحرّك أيُّ صورة! لا صورة ذلك الطفل ذي الثلاثة أعوام الذي أرعد صوت القنبلة والانفجار جسده النحيل فارتعد كالقصب! ولا صورة تلك الطفلة الوحيدة اليتيمة التي ثبّتت عينيها الدامعتين الحمراوين على قدميها المجروحتين وهي تذرف الدموع وتتحدث بصوت متقطع عن طريقٍ بلا وجهة تسير عليه وحيدةً تائهةً!
ولا صورة شعبان أحمد؛ الطالب الجامعي ذي التسعة عشر ربيعاً الذي سقطت قنبلة في جوف الليل على خيمتهم فاحترق حياً بجانب أمه وسط ألسنة اللهب، وكان مع كل “يا الله” يصرخ بها من أعماق روحه وسط النيران المتصاعدة، يقيم الحجة البالغة على أهل العالم أجمع!..
لا المقابر الجماعية! ولا الأجساد المتناثرة تحت الأنقاض! ولا صور حشود الأطفال الجوعى الذين يتلوون ألماً من الجوع وهم ينتظرون بأوعيتهم قليلاً من القوت والطعام! ولا تزايد أرقام الجرحى والشهداء لحظةً بلحظة والتي تجاوزت واحداً وخمسين ألف حياة؛ واحد وخمسون ألف خط رُسم على ابتسامات ودموع وأفراح وأحزان وقلوب نابضة لواحد وخمسين ألف روح؛ واحد وخمسون ألف عالم؛ واحد وخمسون ألف حياة؛ واحد وخمسون ألف قصة؛ واحد وخمسون ألف ماضٍ وحاضر ومستقبل… رقمٌ غريب ثلثه؛ أكثر من ثمانية عشر ألفاً منه يقف أمام أسماء الأطفال والرضع؛ براعم خرجت من الجنة على أمل بستان، فوطئت هذا الكوكب المليء بالألم…
لم تتحول أي صورة من هذه البقعة الموجعة إلى غصة تستقر في حلق وتمزقه؛ لم تصر دمعةً تنهمر ليل نهار وتصير نهراً وطوفاناً، وتقتلع أساس وسلالة النظام المزيف المجرم…
لم توقف أي صورة ألم وفجيعة من غزّة قلباً عن النبض! قلب أي إنسان حر أو غير حر؛ قلب أي مسلم؛ مسلم كان من المفترض أن يموت حزناً على انتزاع خلخال من قدم امرأة يهودية! لكن الآن…
هنا في غزّة لم تأخذ أي صورة، أي إنسان خارج هذه البقعة المحاصرة إلى مذبح ضميره؛ لا صور أكثر من واحد وخمسين ألف شهيد مقطع ومبتور الرأس واليدين والقدمين، ولا صور مئة وسبعة عشر ألف جريح ومصاب يتلوون من الألم في غياب الدواء والعلاج، ويموتون ذرةً بذرة!
هنا في غزّة؛ في هذه البقعة الجهنمية، يوماً ما؛ قبل أيام قليلة، دوى انفجار هائل، خاط الأرض بالسماء وشقّ صدر التراب وقذف كل ما في جوفه؛ من تراب وطوب وسقف وجدار وحجر وإسمنت وحديد وبشر، في دوامة من الدخان والتراب والرصاص والنار إلى السماء؛ إلى عشرات الأمتار فوق سواد هذه الأرض الحزينة؛ دوامة حمراء وسوداء ارتفعت وعلت وشقّت قلب السماء، وتعلقت قطع صغيرة سوداء بين الأرض والسماء؛ استقرت في إطار الكاميرات؛ آلاف القطع؛ قطع من أجساد عشرات الرجال والنساء والشيوخ والشباب والأطفال الغزيين… لكن مرةً أخرى… مرةً أخرى لم ينكسر قلب العالم؛ لم تثر عاصفة…
أي صور! أي لقطات! أي كربلاءات فارت وهاجت في غزّة وصارت بركاناً ووصلت إلى قلب السماء وأحرقت أجنحة الملائكة، لكنها لم تؤثر في قلب هذا العالم الحجري البارد الصامت!.
أنا صحفي؛ أحمد منصور؛ أنا هنا كتبت الألم، عمليات الذبح المتكررة، المجازر والإبادات المستمرة؛ الحرق والاحتراق والاحتراق حياً، الدمار المتواصل؛ الجوع، العطش، الإرهاق بكل لغة، بكل قلم، بكل كلمة خطتها أناملي وبكل شكل وصورة رسمتها، لكن لم يتحرك شيء كي أفرح وآمل أن عصا موسى قد ضُربت على الأرض وانشق بحر وأن الفراعنة على وشك أن يُبتلعوا ويغرقوا ويُدمروا.
أنا هنا في بقعة غزّة المخضبة بالحناء الدموية، في بقعة تآمر عليها عالم بقيادة الشيطان لذبحها، وضرب الفأس في جذورها، وإسقاطها ولم يستطع بعد، أطلق آخر سهم في جعبتي؛ آخر الكلمات؛ آخر الصور؛ صورة للاحتراق؛ احتراق حي لأنسجة الحقيقة الممزوجة بالألم؛ حقيقة اسمها الخبر، اسمها الصحفي؛ اسمها أنا؛ أحمد منصور…
اخترتُ أن أولد في غزّة، أن أعيش في غزّة، وأن أموت في غزّة؛ أن أموت في غزّة من أجل الإنسان والإنسانية، من أجل الأرض، من أجل الحرية، من أجل الحق، من أجل الشرف…
اخترتُ أن أموت من أجل غزّة، أن أحترق حياً وأكتب خبري الأخير بفحم عظامي النحيلة وأنسجة جسدي الطرية التي امتزجت بالرصاص المنصهر الساخن من صاروخ الکيان المحتل مع هذا الكرسي…
أنا هنا في خيمة الصحفيين الذين أغلقت جفونهم للتو من الإرهاق، على بعد خطوتين من مستشفى ناصر في خان يونس؛ في أكثر مكان آمن على وجه البسيطة - حسب كتيب حقوق الإنسان والمريض والصحفي للأمم المتحدة -، أحترق حياً، تحت نيران صواريخ الکيان الصهيوني المسعور الذي ضرب متجاهلاً كل المواثيق والمعايير والضوابط والخطوط الحمراء والقوانين الدولية، معسكر وخيمة الصحفيين بالنار ليظهروا مرةً أخرى قوتهم الزائفة وصلفهم للعالم، ويطلبوا منافساً من عالم الخمول والتراخي والجبن لمواجهتهم.
أنا هنا في أكثر مكان آمن في العالم على أوراق قوانين الأمم المتحدة عديمة الجدوى، أحترق ومحاولات زملائي الصحفيين لإنقاذي عقيمة، لأن جلدي وعروقي ولحمي وعظامي خُيطت بالرصاص الساخن إلى الكرسي وأنا أذوب وأحترق خليةً بخلية؛ أتحول خليةً بخلية إلى كلمة، إلى شعر، إلى صرخة، إلى خبر، إلى حجة، مثل جميع المئتين والأحد عشر صحفياً الآخرين الذين في بقعة غزّة الحمراء، صاروا كلمةً، صورةً، خبراً وحجةً؛ صحفيون يُعدّ قتل كل واحد منهم - حسب خبراء الأمم المتحدة - جريمة حرب.
أنا أحمد منصور؛ مراسل وكالة “فلسطين اليوم” الإخبارية، أتفحم وسط ألسنة اللهب لأكون صورةً ناطقةً حيةً لـ 211 جريمة حرب صارخة في فلسطين المحتلة؛ 211 وثيقة وشاهد؛ 211 دليلاً و 211 حجة لكل المنظمات ومجالس حقوق الإنسان الدولية؛ لكل الاتحادات الإقليمية؛ لجامعة الدول العربية؛ للأمة العربية، للمسلمين الذين أصيبوا بداء الاختناق وختم على أيديهم وأرجلهم وأفواههم ذلٌ قاتل، وجرّهم إلى هاوية الصمت والتراخي والخمول المرعب الإجرامي…
أنا هنا؛ وسط ألسنة النار المتصاعدة أتلظى، لعلّ في ظل صمت مدعي حقوق الإنسان المتشدقين، يصبح على الأقل سلاح الصحفيين الأحرار حاداً قاطعاً؛ لعل أقلامهم تصير صواريخ وكاميراتهم قنابل يمزق انفجارها الهائل بنشر لحظات الإبادة العارية في غزّة، طبلة آذان العالم الثقيلة النائم؛ لعل قلم الصحفيين ووسائل الإعلام اليقظة في العالم تصل إلى صرخة مليوني نازح جائع عطشان؛ مليوني روح؛ مليوني حياة ووجود ومليوني حجة وشاهد، في أكثر بقعة دامية على هذه الكرة الأرضية…
في فجر يوم الاثنين؛ الثامن من أبريل من هذا العام، قصف الکيان الصهيوني المجرم خيمة الصحفيين بجوار مستشفى ناصر في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزّة، وفي هذا القصف، احترق أحمد منصور؛ مراسل وكالة “فلسطين اليوم” الإخبارية حياً أمام كاميرات زملائه الصحفيين، وبعد عدة ساعات استشهد في المستشفى في ظل الوضع الحرج في قطاع غزّة وغياب الإمكانات الطبية. كان أحمد منصور متزوجاً وأباً لولدين وبنت.
وفي هذا القصف، استشهد أيضاً حلمي الفقعاوي؛ صحفي غزي ملتزم آخر، وأصيب صحفيون مثل حسن اصليح، أحمد الآغا، محمود عوض، محمد فايق، عبد الله العطار، ماجد قديح، إيهاب البرديني وعلي اصليح بجروح بالغة.
وباستشهاد الفقعاوي ومنصور، ارتفع عدد الصحفيين الشهداء منذ بدء العدوان الصهيوني على غزّة في السابع من أكتوبر 2023، إلى 208 شهداء، وقد وصل اليوم ولحظة نشر هذا الخبر، عدد هؤلاء الشهداء من أهل القلم والإعلام إلى 211 شهيداً.
وعقب جريمة قصف وإحراق خيمة الصحفيين في خان يونس واستشهاد أحمد منصور والفقعاوي وإصابة باقي الصحفيين، أصدر المكتب الإعلامي للجان المقاومة الفلسطينية بياناً اعتبر فيه هذه الجريمة وصمة عار على جبين منظمات ما يسمى حقوق الإنسان ونفاق هذه المنظمات، وكذلك الطبيعة الوحشية لأمريكا والکيان الصهيوني، وطالب جميع الهيئات الصحفية والإعلامية الدولية بتحمل مسؤولياتها لحماية الصحافة والإعلاميين في غزّة، ومقاطعة الکيان المحتل وكشف جرائمه الوحشية ضد الصحفيين والإعلاميين في غزّة.
وكان للجريمة المروعة المتمثلة في قصف وإحراق خيمة الصحفيين في خان يونس، ونشر الصور التي وثّقت لحظة احتراق أحمد منصور وبثّها إلى العالم أجمع، صدى واسع أيضاً في وسائل الإعلام العالمية، وفي إيران أيضاً، وقّع 1800 من الناشطين الإعلاميين والثقافيين بياناً أعربوا فيه عن دعمهم لشعب غزّة المظلوم والصحفيين، وأدانوا الجرائم المتكررة للکيان الصهيوني.