الوقت- في خضم المشهد الجيوسياسي المضطرب، برزت تركيا فاعلاً طموحاً لا يعرف السكون، راسمةً خارطة طريق مبتكرة لبسط نفوذها من شواطئ المتوسط الشرقية إلى قلب شبه القارة الهندية، مستهدفةً في غاية مسعاها إعادة تعريف دورها كقوة مؤثرة في فضاءات أوراسيا الشاسعة.
أثارت التطورات الأخيرة، ولا سيما التقارب غير المسبوق مع باكستان والمساعي الحثيثة لتأسيس دور محوري في أفغانستان تحت حكم طالبان، تساؤلاً جوهرياً: هل تعمل أنقرة على إرساء دعائم محور جيوسياسي جديد ومتميز؟
في سياق هذا الهدف الاستراتيجي، استضافت إسطنبول مؤخراً مباحثات السلام بين طالبان وباكستان، التي وإن انتهت دون ثمار ملموسة وأعلن الطرفان إخفاقها، إلا أن قبول الجانبين لدور تركيا كوسيط يُعدُّ في حد ذاته إنجازاً دبلوماسياً تحتفي به أنقرة.
جذور التقارب وأسس التلاقي: من العلاقات الثنائية إلى النسيج الإقليمي
تمتد جذور العلاقات التركية-الباكستانية في تربة التاريخ والدين، بيد أنها اكتسبت في العقدين الأخيرين، وتحديداً تحت قيادة رجب طيب أردوغان، طابعاً استراتيجياً متعدد الأبعاد، ولم يقتصر هذا التحول على الميدان السياسي، بل تجلى بوضوح في ساحة التعاون العسكري والدفاعي.
فالتعاون في تصنيع وتطوير المعدات الدفاعية، ولا سيما طائرات “بيرقدار” المسيَّرة المتطورة التي اقتنتها باكستان بكميات وافرة ووظفتها في ميادين شتى، يشهد على انتقال العلاقة من رمزية المظهر إلى شراكة عملياتية فاعلة، وقد مكّن هذا المستوى من التعاون الدفاعي، باكستان من التحرر نسبياً من الارتهان الحصري لشركائها التقليديين كالولايات المتحدة وحتى الصين، موسّعاً بذلك دائرة خياراتها الاستراتيجية.
وفي المقابل، تعكف تركيا على بناء قدراتها الذاتية في المجال الصاروخي، بما يبدو أنه يحظى بدعم ومؤازرة من إسلام آباد.
أما على الصعيد السياسي، فإن التقارب المتنامي بين أنقرة وإسلام آباد في الملفات الإقليمية الحساسة كقضيتي كشمير وفلسطين، المقترن بمواقف نقدية حادة تجاه سياسات الهند والكيان الصهيوني، يعكس مساعي البلدين المشتركة لتقديم بديل في قيادة العالم الإسلامي أمام تكتل الدول العربية بزعامة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
علاوةً على ذلك، تنظر تركيا برؤية بعيدة المدى إلى باكستان كبوابة حيوية للنفاذ إلى أسواق شبه القارة الهندية الهائلة، وكحلقة وصل تربط مجموعة الدول الناطقة بالتركية بمبادرة الحزام والطريق الصينية. ومن هذا المنظور، فإن الارتقاء بالعلاقات مع إسلام آباد لا يمثّل خياراً سياسياً فحسب، بل ضرورة جيواقتصادية لتركيا في خريطة الربط الأوراسي الكبرى.
وفي هذا المشهد المتشكل، تبرز جمهورية أذربيجان كالضلع الثالث في هذا المثلث الاستراتيجي، مضطلعةً بدور حلقة الوصل الجيوسياسية، فقد أرست انتصارات باكو في حرب قره باغ، بدعم عسكري واستخباراتي تركي سخي، ومساندة سياسية باكستانية صريحة، أسس محور ثلاثي راسخ الأركان، وتجسدت هذه المنظومة الأمنية المتكاملة في المناورات العسكرية المشتركة تحت مسمى “الإخوة الثلاثة”.
كما حمل اختيار مدينة باكو مؤخراً لتكون مسرحاً للقاء قادة تركيا وباكستان، دلالات رمزية ورسائل جيوسياسية عميقة، فباكو لا تمثّل رمزاً لانتصار الحركة البان-تركية تحت قيادة أنقرة فحسب، بل تشكل أيضاً منصةً لإظهار التضامن الاستراتيجي في مواجهة القوى المنافسة، ولا سيما إيران التي تبدي حساسيةً مفرطةً إزاء التغلغل التركي المتزايد في القوقاز، والهند التي تربطها علاقات وثيقة بأرمينيا وتنافس باكستان على بسط النفوذ في آسيا الوسطى وطرق الترانزيت ومسارات الطاقة في المنطقة، ويعمل هذا المحور الثلاثي على نسج شبكة من التعاون تنطلق من جنوب القوقاز، وتمتد عبر أفغانستان وصولاً إلى باكستان، لتبلغ المياه الدافئة للمحيط الهندي.
أفغانستان: ساحة الاختبار وميدان النفوذ
شكّلت التطورات الأفغانية عقب انسحاب القوات الأمريكية، مختبراً لقياس عمق النفوذ والقدرة الدبلوماسية التركية في جنوب آسيا، فاحتفاظ أنقرة بحضورها الدبلوماسي في كابول يجعلها استثناءً بين حلفاء الناتو، ويعكس عزمها على البقاء طرفاً فاعلاً في معادلات هذا البلد، ويمثّل دور الوساطة التركية في استضافة الحوار بين طالبان وباكستان، خطوةً استراتيجيةً ومؤشراً على نضج دبلوماسية أنقرة.
فتركيا، بما تتمتع به من علاقات عملية مع الطرفين، تحظى بميزة نسبية؛ حتى الصين، بقوتها العظمى، تفتقر بسبب محدوديات تاريخية وأيديولوجية إلى مثل هذا الوصول المباشر لكل أجنحة طالبان، وتتيح هذه المكانة لتركيا ليس فقط التدخل في حل النزاعات الحدودية والأمنية بين باكستان وطالبان، بل أيضاً ترسيخ موقعها كلاعب مؤثر في مستقبل أفغانستان.
ويندرج هذا الدور أيضاً ضمن منافسة أوسع بين تركيا وقطر والإمارات على النفوذ في أوساط طالبان، فبينما كانت الدوحة لسنوات القناة الرئيسة للتواصل مع طالبان، تسعى أنقرة بإصرار لكسر هذا الاحتكار وزيادة نصيبها من النفوذ في هيكل السلطة بكابول، من جهة أخرى، تستخدم الإمارات أدواتها الاقتصادية والأمنية لتعزيز نفوذها المتنامي في جنوب آسيا، وحتى في القوقاز وآسيا الوسطى، وترى تركيا في حضورها الفعال بأفغانستان استراتيجيةً لاحتواء هذا النفوذ.
وفي منظور أشمل، لا تمثّل أفغانستان بالنسبة لتركيا مجرد أزمة أمنية، بل جسراً جيوسياسياً نحو آسيا الوسطى، فأنقرة تراود نفسها بتفعيل ممرات تجارية تنطلق من القوقاز، وتعبر الأراضي الأفغانية، لتتصل بالمشاريع التحتية في باكستان، وصولاً إلى موانئ بحر مكران. ومن شأن خارطة الطريق هذه تعزيز مكانة تركيا كـ"مركز ربط أوراسي" محوري.
طبيعة المحور الناشئ الشبكية والدوافع الاستراتيجية التركية
لا يمكن قياس المحور المتشكل بقيادة تركيا، بمعايير التحالفات التقليدية كالناتو أو مجلس التعاون، فطبيعته أقرب إلى “ائتلاف شبكي” غير رسمي، مرن، يفتقر إلى البنية المؤسسية المعقدة، لكنه في الوقت ذاته عملي للغاية ومبني على مصالح مشتركة آنية، ويرتكز هذا النسيج على أعمدة رئيسة: تعاون دفاعي عميق، تقارب سياسي في الملفات المحورية، رؤية مشتركة تجاه الهند كمنافس جيوسياسي، منافسة نفوذ الإمارات والسعودية، والسعي لإدارة التحولات الأفغانية.
أما الدوافع الرئيسة التي تحفز تركيا للاستثمار في هذا المحور فمتعددة الجوانب:
أولها، السعي الدؤوب لتبوؤ دور القيادة في العالم الإسلامي؛ الدور الذي ترى أنقرة نفسها جديرةً به.
ثانيها، الوصول إلى أسواق جديدة في جنوب آسيا وآسيا الوسطى للصناعات الدفاعية وقطاع الإنشاءات التركي، اللذين يشكلان عماد اقتصاد البلاد.
ثالثها، إيجاد توازن فعال في مواجهة المحور المتنامي الهندي-الإسرائيلي-الإماراتي، الذي يتمدد بوتيرة متسارعة على امتداد السواحل الشرقية والجنوبية للعالم العربي.
رابعها، بناء رافعة ضغط جديدة في مواجهة حلفائها الغربيين في الناتو. فامتلاك النفوذ في مناطق متوترة كأفغانستان وباكستان، يرفع من قيمة “العلامة الجيوسياسية” التركية على طاولات المفاوضات الدولية.
وأخيراً، تعزيز دور أنقرة في آسيا الوسطى، موطن الأعراق التركية، من خلال النفوذ في أفغانستان والسيطرة على القوقاز، مما يحقّق حلم البان-تركية العتيق في إطار عصري وعملي.
المحددات والتحديات المستقبلية
رغم هذه الاتجاهات الواعدة من منظور تركي، يواجه تشكّل هذا المحور بصورة كاملة عقبات وقيوداً هيكلية جادة، فالتبعية العميقة لباكستان تجاه الصين تمثّل التحدي الأكبر، إذ لا يمكن ولا ترغب إسلام آباد أبداً في استبدال تعاونها مع تركيا بعلاقتها الاستراتيجية مع بكين، كما قد تعارض الصين تنامي النفوذ التركي في مشروع الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني (CPEC)، الذي يشكّل جزءاً من مبادرة الحزام والطريق، إذ لن تقبل بمشاركة أحد في السيطرة على هذا المشروع الحيوي.
وعلى الجبهة الأفغانية، تجعل الهشاشة المتأصلة في حكم طالبان وغياب بنية حوكمة متماسكة أي استثمار خارجي طويل الأمد، بما في ذلك الاستثمار التركي، محفوفاً بمخاطر جمة، فلا يمكن لتركيا أن تبني خارطتها الجيوسياسية على أساس نظام حكمٍ يفتقر إلى الاستقرار والشرعية الدولية.
كما لا يمكن إغفال حساسية إيران، الجارة القوية لهذا المحور، فطهران تراقب بقلق تشكّل ممر يمرّ عبر حدودها الشمالية، وتديره قوى تعدّها منافسين تقليديين.
من جهة أخرى، تجعل القوة الاقتصادية والعسكرية المتنامية للهند، إنشاء أي محور صريح مناهض لها باهظ التكلفة لأعضائه، فبوسع الهند الرد باستخدام أدواتها الاقتصادية والدبلوماسية والأمنية، وخاصةً في الخليج الفارسي، مصدر الطاقة والعمالة الحيوي لباكستان وتركيا.
وأخيراً، ستسعى الدول العربية بقيادة الإمارات والسعودية، التي لطالما عارضت مشروع الهيمنة التركية في العالم الإسلامي، إلى تحييد تأثير هذا المحور الناشئ مستخدمةً أدواتها المالية ونفوذها السياسي في العواصم الرئيسة. وقد وقعت السعودية مؤخراً اتفاقية تعاون عسكري وأمني شاملة مع إسلام آباد، والتي في ضوء توفير مظلة نووية للرياض، تُظهر عملياً تحالفاً أقوى من نوع التحالف الذي تسعى تركيا لبنائه.
خاتمة القول
بالنظر إلى كل هذه المعطيات، يمكن القول إن تركيا تعكف بدأب واعٍ على تشييد محور جيوسياسي جديد، قوامه التعاون الاستراتيجي التركي-الباكستاني، وحلقة وصله أذربيجان، وميدان اختباره أفغانستان، وتبتغي تركيا في نهاية المطاف إقامة قوس نفوذ متصل الأطراف، يبتدئ من البلقان والقوقاز، ويمتد عبر أفغانستان وباكستان، ليبلغ شواطئ المحيط الهندي.
ويتوقف نجاح أو إخفاق هذا المشروع الطموح ليس فقط على براعة أنقرة الدبلوماسية، بل أيضاً على كيفية إدارتها للتنافس مع قوى كالصين والهند وإيران والتكتل العربي، فضلاً عن قدرتها على تجاوز مستنقع عدم الاستقرار الأفغاني، وعلى أي حال، فإن مجرد السعي لتحقيق هذه الخارطة، يظهر بذاته أن تركيا تعدّ العدة للعب في دوري كبار اللاعبين الجيوسياسيين في أوراسيا، وتطمح لإعادة صياغة النظام الإقليمي، لا وفق القوالب البالية، بل على أساس تصوراتها المبتكرة.
