الوقت - في خضم الحرب التجارية المكثفة التي يشنها ترامب ضد الصين وفرض رسوم جمركية باهظة على السلع الصينية، بدأ الرئيس الصيني شي جين بينغ جولة إقليمية، كان الهدف الرئيسي منها، حسب الخبراء، محاولة تحييد الضغوط من البيت الأبيض وحتى النظر في استغلال فرصة السخط الدولي لتولي مكانة رائدة في الاقتصاد العالمي.
وصل شي إلى فيتنام يوم الإثنين في المحطة الأولى من جولته الإقليمية في جنوب شرق آسيا، حيث التقى مسؤولين فيتناميين وحثهم على الانضمام إلى الصين في مواجهة التنمر الأمريكي بشكل مشترك، وخلال الزيارة، وقع البلدان 45 اتفاقية تعاون، وخاصة في مجالات سلاسل التوريد، والذكاء الاصطناعي، والدوريات البحرية المشتركة، والسكك الحديدية.
وفي محطته الثانية، توجه شي إلى ماليزيا يوم الثلاثاء وأجرى محادثات مع الملك الماليزي أنور إبراهيم حول التعاون الثنائي والقضايا الإقليمية والدولية، وخاصة تشكيل الجماعة الاقتصادية لرابطة دول جنوب شرق آسيا، التي يرأسها رئيس الوزراء الماليزي.
وقال شي خلال الاجتماع إنه يرغب في العمل مع ملك ماليزيا لتوجيه العلاقات الصينية الماليزية على مسار طويل الأمد من الاستقرار، وبناء شراكة استراتيجية رفيعة المستوى ومجتمع صيني ماليزي بمستقبل مشترك، وفتح فصل جديد من الصداقة والتعاون. وستكون هذه نقطة البداية لخمسين عامًا ذهبية جديدة في العلاقات بين البلدين.
ومن المقرر أن يتوجه الرئيس الصيني أيضا إلى كمبوديا في إطار جولته الإقليمية لمناقشة القضايا الاقتصادية والسياسية مع البلاد.
أهداف الصين للتقارب مع رابطة دول جنوب شرق آسيا
وفي حين سعت الولايات المتحدة إلى احتواء التنين الأصفر من خلال فرض الرسوم الجمركية، فإن هذه التدابير أتت بنتائج عكسية.
ورد ترامب على ذلك قائلا إن شي يعتزم تجاوز الولايات المتحدة من خلال السفر إلى الدول الآسيوية وهدد بفرض رسوم جمركية بنسبة 245% على بكين، مواقف تظهر أن استراتيجية شي كانت ناجحة، حيث إن إنجازات هذه الرحلة لم تقتصر على بناء جبهة للصين في الحرب التجارية، كما تحدت بكين الاستراتيجية الأساسية للسياسة الإقليمية الأمريكية في السنوات الأخيرة لتأمين محيط الصين في بحر الصين الجنوبي وقضية تايوان.
وفي هذا الصدد، وضع شي جين بينج على جدول أعمال هذه الرحلة تعزيز التكامل الاقتصادي مع دول رابطة دول جنوب شرق آسيا من أجل خلق أسواق بديلة وبناء سلاسل توريد جديدة.
وباعتبارها أعضاء رئيسيين في رابطة دول جنوب شرق آسيا، تتمتع فيتنام وماليزيا وكمبوديا بموقع جيد للتعاون الاقتصادي، وترغب الصين في تعويض بعض الخسائر من السوق الأمريكية من خلال تطوير اتفاقيات تجارية ومشاريع البنية الأساسية والاستثمارات المشتركة.
وتطرق شي إلى هذا الأمر في ماليزيا، قائلا إن الصين ورابطة دول جنوب شرق آسيا كانتا أكبر شريكين تجاريين لبعضهما البعض لمدة خمس سنوات متتالية، وقال إن الصين ستعمل مع ماليزيا ودول الآسيان الأخرى لمكافحة الأحادية والحمائية.
وتسعى الصين أيضًا إلى ضمان وصول أكثر أمانًا إلى مصادر الطاقة والمواد الخام من هذه البلدان، وتعتبر ماليزيا واحدة من أكبر منتجي الغاز الطبيعي في المنطقة، ومن الممكن أن يؤدي التعاون مع هذا البلد إلى تقليل اعتماد الصين على الطرق الخطرة مثل مضيق ملقا، وفي مجال التكنولوجيا، تريد الصين استخدام القدرات الصناعية الناشئة في فيتنام لنقل بعض إنتاجها وصادراتها، وهو أمر منطقي على النقيض من العقوبات والقيود التكنولوجية الأمريكية.
وتتمتع فيتنام وماليزيا بعلاقات وثيقة مع الولايات المتحدة، ولكن في الوقت نفسه تحتاجان إلى الاستثمارات الصينية، وقد ترسل زيارة الرئيس الصيني رسالة سياسية واضحة إلى الولايات المتحدة مفادها بأن بكين لن تسمح لواشنطن بعزل محيط الصين من خلال سياسات أحادية الجانب، ومع تعزيز الصين لتعاونها مع الدول الآسيوية، فإن موقف الولايات المتحدة في المنطقة سوف يضعف، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تراجع النفوذ الأمريكي في الدول الآسيوية الرئيسية.
ولذلك فإن زيارة الرئيس الصيني لدول جنوب شرق آسيا لا تعكس جهود الصين لمواجهة السياسات الاقتصادية والأمنية الأمريكية فحسب، بل قد يكون لها أيضاً تأثيرات عميقة على توازن القوى في آسيا، ونظراً لحاجة البلدان الآسيوية إلى النمو الاقتصادي والأمن المستدام، فإن هذه التعاونات قد تؤدي إلى تغييرات كبيرة في السياسة الدولية.
وتهدف الرحلة أيضًا إلى إبراز الصورة الإيجابية للصين في آسيا، ومن خلال التركيز على مفاهيم مثل "التنمية المشتركة"، و"الاحترام المتبادل"، و"عدم التدخل في الشؤون الداخلية"، تحاول الصين تحسين صورتها في مواجهة الروايات الغربية السلبية التي ترى في الصين تهديداً جيوسياسياً.
وبعيدا عن القضايا الاقتصادية، تظل تايوان واحدة من أهم النقاط الجيوسياسية بين واشنطن وبكين، وفي الأشهر الأخيرة، زادت الولايات المتحدة من دعمها العسكري والسياسي لتايوان، وهو ما تعتبره الصين انتهاكا مباشرا لمبدأ "الصين الواحدة"، وفي ظل هذه الظروف، فإن أحد أهداف زيارة شي جين بينج إلى جنوب شرق آسيا هو الحصول على دعم أكثر وضوحا من الدول الإقليمية لسياسة الصين الواحدة، وهي الخطوة التي قد تزيد الضغوط الدبلوماسية على تايوان وتحد من مجال المناورة أمام أمريكا في هذا الصدد.
حاجة الآسيويين إلى الصين
وتأتي زيارة شي إلى الدول الآسيوية في الوقت الذي أبدت فيه العديد من الدول في رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) التي تضم 10 أعضاء استياءها من سلوك ترامب بعد فرضه رسوما جمركية باهظة على دول في جميع أنحاء العالم.
لقد أدت سياسات ترامب التجارية، وخاصة فرض رسوم جمركية باهظة على السلع الصينية، إلى تغييرات كبيرة في العلاقات الاقتصادية الدولية، ولم تؤثر هذه السياسات على الاقتصاد الصيني فحسب، بل اتجهت الدول الآسيوية أيضاً نحو تعزيز التعاون مع الصين بسبب المخاوف من العواقب الاقتصادية لهذه التعريفات.
لقد أدت الرسوم الجمركية المرتفعة على السلع الصينية إلى زيادة تكاليف الاستيراد بالنسبة للدول الآسيوية التي تعتمد بشكل كبير على الصادرات الصينية، وقد دفع هذا البلدان إلى البحث عن حلول لتقليل اعتمادها على الأسواق الأمريكية.
مع تزايد التعريفات الجمركية، تتطلع الدول الآسيوية إلى إيجاد أسواق بديلة وتعزيز العلاقات التجارية مع الصين، ومن الممكن أن يعود هذا التغيير في مسار التجارة بالنفع على الاقتصادات الإقليمية التي تعاني حالياً من ضغوط اقتصادية.
وتشعر العديد من الدول الآسيوية بالقلق من أن استمرار السياسات التجارية الأمريكية قد يؤدي إلى ركود اقتصادي، لذا في هذا السياق، يُنظر إلى التعاون مع الصين باعتباره خياراً جذاباً للحفاظ على النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل.
تسعى الدول الآسيوية إلى الاستثمار في مشاريع البنية التحتية والاقتصادية المشتركة مع الصين، وتوفر مبادرة "حزام واحد، طريق واحد" فرصة جيدة لهذه الدول للاستفادة من المزايا الاقتصادية والتكنولوجية التي تتمتع بها الصين.
إن التعاون مع الصين من شأنه أن يساعد الدول الآسيوية على إيجاد أسواق جديدة لصادراتها، وهذا أمر بالغ الأهمية بشكل خاص بالنسبة للدول التي تعتمد بشكل كبير على تصدير سلعها، وعلاوة على ذلك، فإن التعاون الوثيق مع الصين من شأنه أن يساعد الدول الآسيوية على تعزيز علاقاتها السياسية مع بكين، ومن الممكن أن يؤدي هذا إلى مزيد من الدعم للصين في المحافل الدولية وتقليص الضغوط الأمريكية على هذه الدول.
إن ميل الآسيويين نحو الصين قد لا يساعد فقط في تعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية في المنطقة، بل قد يمهد الطريق أيضاً لتحولات كبرى في توازن القوى الاقتصادية في آسيا، ونظراً للإمكانيات العالية التي تتمتع بها الصين والحاجة إلى النمو الاقتصادي المستدام بين الدول الآسيوية، فمن المتوقع أن يتوسع هذا التعاون في المستقبل القريب.
وبشكل عام، فإن زيارة الرئيس الصيني إلى فيتنام وماليزيا وكمبوديا تمثل استجابة متعددة الأبعاد لسياسات التعريفات الجمركية التي ينتهجها ترامب والضغوط الجيوسياسية الأمريكية في آسيا، إن هذه الرحلة لا تخدم الأهداف الاقتصادية والتجارية للصين فحسب، بل تعكس أيضاً جهود بكين الرامية إلى تشكيل نظام إقليمي يعمل بشكل مستقل عن إرادة واشنطن وسياساتها.