الوقت- لم يكن استهداف الأطفال الفلسطينيين يومًا مجرد أضرار جانبية لحرب ظالمة، بل هو في صميم العقيدة الصهيونية التي نشأت على فكرة محو الوجود الفلسطيني، ليس فقط من الأرض، بل من الذاكرة والتاريخ والمستقبل، فمنذ نكبة عام 1948، لم تكن جرائم الاحتلال بحق النساء والأطفال مجرد تجاوزات، بل كانت نابعة من عقيدة ترى في براءة الطفل الفلسطيني خطرًا مؤجلًا، وفي ضحكته نذيرًا بمقاومة قادمة.
إن استهداف الطفولة الفلسطينية ليس صدفة، بل سياسة ممنهجة، تقوم على الخوف العميق من الأمل الذي يحمله هذا الجيل الجديد، من العيون التي ما زالت تلمع رغم الدمار، ومن الأصوات الصغيرة التي تردد أسماء قراها المهجّرة وتحفظ أسماء الشهداء، ولذلك، تُستباح دماء الأطفال في حضن أمهاتهم، وتُدفن طفولتهم تحت أنقاض البيوت، ليس فقط بقذائف الاحتلال، بل بفتاوى حاقدة تشرعن الإبادة وتغلفها بالخوف من "النسل المقاوم".
ما يجري في غزة اليوم ليس حربًا على "خطر" عسكري، بل هو ترجمة حية لعقيدة تستبيح كل ما هو فلسطيني، وترى في الطفل المُحاصَر مشروع مقاومة يجب قتله قبل أن يكبر، ولهذا، لا قوانين تردع، ولا أعراف تُلزِم، لأن المبدأ الذي يحكم آلة القتل الصهيونية ليس الأمن، بل الإلغاء، وليس الردع، بل الإبادة.
محاولة إيجاد تغيير ديموغرافي
لطالما كان الأطفال والنساء في فلسطين، وبشكل خاص في قطاع غزة، في قلب دائرة الاستهداف الصهيوني، ليس فقط باعتبارهم جزءًا من المجتمع المدني، بل لكونهم يشكّلون محورًا حساسًا في المعادلة الديموغرافية التي تؤرق عقل الاحتلال منذ نشأته، ومع كل عدوان تشنه "إسرائيل" على غزة، تبرز الأرقام الصادمة التي تظهر ارتفاعًا مضاعفًا في أعداد الشهداء من النساء والأطفال، وهو ما لا يمكن تفسيره فقط كأثر جانبي للحرب، بل كاستراتيجية مدروسة ذات أبعاد سكانية ونفسية واجتماعية.
بعد عملية "طوفان الأقصى"، تجلّى هذا التوجه بأوضح صوره، حيث صعّد الاحتلال من استهدافه المباشر للمنازل السكنية، رغم علمه المسبق بأنها تؤوي عائلات كاملة، غالبًا ما تضم أطفالًا ونساءً لا علاقة لهم بأي عمل عسكري، هذه السياسة لم تكن عشوائية، بل تهدف إلى تفريغ الأرض من أهلها عبر نشر الرعب، وتدمير البنية السكانية والاجتماعية للمجتمع الفلسطيني، في محاولة لإحداث تغيير ديموغرافي طويل الأمد.
في العقل الصهيوني، يُعتبر العامل السكاني تهديدًا وجوديًا، فالفلسطينيون الذين يتكاثرون بوتيرة أسرع، يشكلون "قنبلة ديموغرافية" في نظر الاحتلال، تُهدد ميزان التفوق العددي الذي يسعى لترسيخه على الأرض. ولذلك، فإن استهداف الأطفال لا يُفسر فقط كجريمة ضد الطفولة، بل كإجراء وقائي في نظر قادة الاحتلال، لمنع نشوء أجيال جديدة من الفلسطينيين الذين قد يتحولون إلى مقاومين، أو ببساطة إلى بشر يحملون روايتهم وهويتهم ويتمسكون بأرضهم.
إن قصف المنازل ومخيمات النازحين، وفرض ظروف حياتية مستحيلة، ليست سوى أدوات في خدمة هذا الهدف: دفع الفلسطيني إلى الرحيل، أو على الأقل، قطع نسله، وكسر إرادته في البقاء، هذه ليست حربًا على "حماس" أو أي فصيل مقاوم، بل على فكرة الحياة الفلسطينية ذاتها.
إجرام غير مسبوق
إن عدد الأطفال الفلسطينيين، سواء الأطفال الرُضع أو الأطفال عمومًا، الذين قتلهم جيش الاحتلال مُفزع وغير مسبوق في التاريخ الحديث للحروب، ويعبر عن نمط خطير قائم على نزع الإنسانية عن الفلسطينيين في قطاع غزة، باستهدافه الأطفال على نحو متعمد ومنهجي وواسع النطاق ودون توقف، منذ أكثر من عشرة أشهر، وبأكثر الطرق وحشية وأشدها فظاعة.
وحسب تقارير للمرصد الأورومتوسطي فإن العديد من الأطفال تقطعت رؤوسهم وأعضاء أجسادهم بفعل قصف شديد التدمير على تجمعات المدنيين، وخاصة المنازل والمباني والأحياء السكنية ومراكز الإيواء وخيام النازحين قسرًا، ما يشكل انتهاكًا صارخًا لقواعد التمييز والتناسب والضرورة العسكرية، واتخاذ الاحتياطات اللازمة.
جيش الاحتلال "الإسرائيلي" يمتلك تكنولوجيا متطورة، وهو يعلم في كل مرة يستهدف فيها منزلًا أو مركز إيواء ومَن داخله مِن المدنيين، بمن فيهم الأطفال والنساء، ومع ذلك يقصفها بصواريخ وقنابل ذات قدرة تدميرية كبيرة، متعمدًا بذلك إحداث أكبر قدر ممكن من الخسائر في أرواح المدنيين وإحداث الإصابات الشديدة، بدلالة النمط المتكرر والمنهجي وواسع النطاق للاستهداف الإسرائيلي للمدنيين في قطاع غزة، والأسلحة شديدة التدمير والعشوائية، وخاصة ضد المناطق ذات الكثافة السكانية المدنية العالية.
اعتقال الأطفال جزء من الاستهداف
يتعمد الكيان الصهيوني ضمن مخالفاته العديدة للقوانين الدولية واتفاقية جنيف وبروتوكولاتها الملحقة اعتقال الأطفال الفلسطينيين وفي هذا تحدٍ صريح لكل الأعراف والقوانين الدولية، وكان اعتقال الكيان الصهيوني للأطفال الفلسطينيين منتشراً في الضفة الغربية قبل الحرب الحالية أكثر من قطاع غزة والذي ازداد بالقطاع في الحرب الدائرة حالياً واقتحام الجيش الصهيوني لمراكز إيواء النازحين، حيث يعتقل الكيان الصهيوني هؤلاء الأطفال اعتقالاً إدارياً حتى لا يتم الاعتراف بهم كأسرى حرب لكي لا يلتقيهم أو يقدم لهم الرعاية الصليب الأحمر الدولي، فالكيان الصهيوني لا يراعي الاتفاقات الدولية ويخضعهم للتعذيب الشديد الذي لا يمكن للعقل تصوره، لدرجة أن الكثير من الأسرى الفلسطينيين الذين يخرجون من المعتقلات يتحدثون عن وسائل تعذيب بشعة منها الحرمان من الطعام والماء والنوم وإجراء العمليات الجراحية من دون تخدير وبتر الأطراف، كل هذا مُجرّم بالقانون الدولي لكن الكيان الصهيوني لا يهتم بالقوانين الدولية
الطفولة لم تُفقد في غزة… بل أُعدمت عن سابق قصد وإصرار
منذ السابع من أكتوبر، عاش الطفل الفلسطيني في غزة مشاهد تقشعر لها الأبدان، فآلة الإبادة الصهيونية لم تترك له حق الحياة، ولا حتى حق البكاء بسلام، أطفال انتُشلوا من تحت الركام وهم يحتضنون أمهاتهم موتى، وأطفال آخرون ظلوا لساعات محاصرين تحت الأنقاض، يسمعون صرخات أحبائهم تختفي واحدة تلو الأخرى، ثم يخرجون وحدهم إلى عالم بلا أهل، بلا مأوى، وبلا طفولة.
في مشهد آخر، طفل بقي ممسكًا بيد شقيقه المتوفى، رافضًا أن يتركها، بينما آخر فقد قدمه وقال للمسعف: "ما بدي رجل جديدة، بس رجّعولي مدرستي وصديقي"، من أطفال بُترت أطرافهم أو فقدوا أعينهم، إلى آخرين فارقوا الحياة اختناقًا في حضّانات توقفت بسبب انقطاع الكهرباء أو دُمّرت بالقصف.
حتى المستشفيات والمدارس والملاجئ لم تكن ملاذًا، بل أصبحت أهدافًا مباشرة، تفتك بمن لجأ إليها بحثًا عن أمان، من خيمة إلى خيمة، ومن مدينة مدمّرة إلى ركام، يتنقل أطفال غزة حاملين في عيونهم صور منازل اندثرت وأحباب رحلوا، الجوع، والخوف، والتهجير، والموت المحيط من كل اتجاه، جعل من الطفولة في غزة تجربة أقرب إلى الجحيم.
إنها ليست مجرد حرب، بل حملة منظمة لقتل الأمل في مهده، لتصفية جيل كامل من الفلسطينيين منذ نعومة أظفارهم.
العدالة تبدأ بخطوة.. والجلاد لن يفلت إلى الأبد
لم نُفاجأ بما أعلنته المحكمة الجنائية الدولية من إصدار أوامر اعتقال بحق رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فهذه التهم لا تُولد من فراغ، بل من دماء آلاف الضحايا، وأشلاء الأطفال، وصور البيوت المهدّمة على رؤوس ساكنيها، ما جرى ويجري في غزة وسائر فلسطين لا يمكن أن يبقى خارج إطار المحاسبة، وها هو العالم، ولو متأخرًا، يبدأ بخطوة على طريق العدالة.
وفي الوقت ذاته، تمضي محكمة العدل الدولية في لاهاي بمحاكمة الاحتلال على جريمة الإبادة الجماعية، بناءً على الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا، وانضمت إليها دول كثيرة من مختلف قارات العالم، ما يعكس تحولًا في الوعي الدولي تجاه طبيعة هذا الكيان وممارساته، ورغم أن أدوات القانون الدولي بطيئة، وتستغرق سنوات طويلة في مسارها، إلا أن صدور مثل هذه الأوامر يثبت أن ذاكرة الشعوب لا تموت، وأن عدالة الأرض، مهما تأخرت، لا تسقط بالتقادم.
إن الاحتلال، الذي اعتاد لعقود أن يتصرف وكأنه فوق القانون، يواجه اليوم لحظة الحقيقة: لحظة يُوضع فيها قادته في موضع الاتهام، ويُنظر إليهم عالميًا كما هم في حقيقتهم — مجرمو حرب، وربما لا يُلقى القبض عليهم غدًا، لكن مسار المحاسبة بدأ، وسقوط الحصانة المعنوية والسياسية له ما بعده، لقد كُسر حاجز الصمت، وأصبح من الممكن أن يُلاحق الجلاد، وأن يسمع أطفال غزة صدى أصواتهم في أروقة العدالة الدولية.
"العدل بطيء، لكنه لا يضل الطريق... والدم لا يصمت إلى الأبد".