الوقت- إن نهاية الحرب الباردة في أوائل تسعينيات القرن العشرين لم تضع حداً للمنافسة الإيديولوجية بين الكتلة الشرقية (بقيادة الاتحاد السوفييتي) والكتلة الغربية (بقيادة الولايات المتحدة) فحسب، بل مهدت الطريق أيضاً لتحول عميق في النظام الدولي، وهكذا شهد العالم خلال العقدين اللذين أعقبا انهيار الاتحاد السوفييتي هيمنة نسبية للعولمة؛ وقد رافق هذا الاتجاه طمس الحدود الاقتصادية، بما في ذلك تشكيل منظمة التجارة العالمية في عام 1995، وتوسيع التعاون عبر الوطني، وتعزيز المؤسسات الدولية.
لكن منذ العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بدأ تغيير عميق وظهرت علامات العودة إلى القومية، ولعل نقطة التحول في هذه التطورات كانت فوز دونالد ترامب، القومي المتشدد، في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016 وعودته إلى البيت الأبيض في عام 2025.
لقد كانت لسياسات الرئيس الأمريكي تأثيرات عميقة على النظام العالمي، لقد دشن ترامب حقبة جديدة من عدم الاستقرار الجيوسياسي والتوتر من خلال فرض رسوم تجارية باهظة، وإضعاف المؤسسات الدولية، والتركيز على المصالح الوطنية.
الأحادية وإضعاف المؤسسات الدولية
لقد سعى دونالد ترامب، تحت شعار "أمريكا أولاً"، إلى تطبيق سياسات أحادية الجانب أدت إلى إضعاف المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية، وأظهرت تصرفات ترامب أنه يفضل السيادة الوطنية على التعاون المتعدد الأطراف، وقد شكل هذا النهج تحدياً خطيراً للكيان العالمي الليبرالي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية.
لقد بدأ ترامب، الذي كان منتقدًا قويًا النظام الدولي الليبرالي منذ البداية، اتجاهًا جديدًا في السياسة الخارجية الأمريكية بإجراءات مثل الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، والتهديد بانسحاب الولايات المتحدة من منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وبدء حرب تجارية، ولم يستمر هذا الاتجاه خلال فترة ولايته الثانية في البيت الأبيض فحسب، بل اتسع إلى مستوى غير مسبوق.
وانسحب الرئيس الأمريكي من منظمة الصحة العالمية، مهدداً بتقليص التعاون مع المؤسسات الدولية.
تعكس شعارات ترامب، بما في ذلك "جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى" (MAGA)، وأفعاله ابتعاده عن العولمة، ويعتقد ترامب أن السياسات الأمريكية السابقة المتمثلة في دعم الحلفاء وتوسيع الكيان الليبرالي أضعفت القوة الاقتصادية والأمنية للبلاد.
التوترات التجارية والتغيرات في النظام الاقتصادي العالمي
منذ عودة دونالد ترامب إلى السلطة في يناير/كانون الثاني، واجه الاقتصاد العالمي والعلاقات التجارية تحديات أساسية؛ ويأتي هذا في الوقت الذي تكثفت فيه سياسات ترامب الأحادية والقومية خلال فترة ولايته الثانية كرئيس.
وقد صعّد ترامب التوترات التجارية بفرض رسوم جمركية شاملة على الواردات، بما في ذلك تعريفة أساسية بنسبة 10% على جميع السلع المستوردة ورسوم جمركية أعلى على دول مثل الصين (54%) والاتحاد الأوروبي (20%) واليابان (24%).
في حين أعلنت شبكة الأخبار الأمريكية "سي إن إن" مؤخرا، نقلا عن غرفة التجارة الدولية، أن خطة ترامب قد تكون "أكبر تصعيد للرسوم الجمركية الأمريكية" في السنوات المئة الماضية.
وقد أدت هذه الإجراءات، بالإضافة إلى التسبب في تقلبات شديدة في الأسواق المالية العالمية وإضعاف قيمة الدولار الأمريكي، إلى زيادة المخاوف بشأن حدوث ركود اقتصادي عالمي، وحذر بعض المحللين من أن هذه الإجراءات قد تهدد الكيان التجاري الدولي.
في هذه الأثناء، ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أمس (الخميس) أن الولايات المتحدة تعمل على تفكيك الكيان التجاري العالمي الذي بنته، ما يبشر بعصر جديد من عدم اليقين، مشيرة إلى القرارات الأخيرة التي اتخذتها الحكومة الأمريكية بفرض تعريفات تجارية شاملة.
ويرى الخبراء أن الحرب التجارية التي يشنها ترامب كأداة للضغط على الدول تعكس استعداد ترامب لاستخدام الأدوات الاقتصادية لتعزيز المصالح الوطنية.
تغيير النهج الأمريكي تجاه حلف شمال الأطلسي وتقليص الالتزامات الأمنية
وفي ولايته الثانية، أظهر ترامب أن نهج أمريكا تجاه التحالف قد تغير من خلال انتقاده للإنفاق الدفاعي لحلف شمال الأطلسي، والتأكيد على ضرورة قيام الدول الأعضاء بزيادة ميزانياتها الدفاعية، فضلاً عن التهديد بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي، إن هذه التغييرات الجذرية في السياسة الخارجية الأمريكية قد يكون لها تأثيرات عميقة على البنية الأمنية والدفاعية الجماعية في أوروبا.
ولم يقتصر تأثير ترامب على توتر العلاقات مع حلفائه القدامى وخلق صدع عميق في العلاقات عبر الأطلسي فحسب، بل تسبب أيضًا في تحرك أوروبا نحو استراتيجية مستقلة لأمن القارة الخضراء.
وتُظهِر هذه التطورات أن الزعامة الأمريكية التقليدية في الكيان الأمني الغربي الذي نشأ بعد الحرب الباردة آخذة في الضعف، وأن سياسات ترامب الأحادية الجانب أدت إلى تفاقم عدم الاستقرار في الكيان الدولي، في حين أن أنصار هذه السياسات العدوانية يطلقون عليها اسم "جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى"، فإن العواقب قد تكون لها تكاليف باهظة طويلة الأجل على الاستقرار والنظام العالمي.