الوقت- في عالم تتنازعه التحالفات الجيوسياسية، وتُكتب فصوله بمداد المصالح والنفوذ، يبرز اليمن اليوم، بعد عقد من الحرب والحصار، كحالة نادرة من الصمود الأسطوري في مواجهة أعنف عدوان شهده تاريخه الحديث. لم يكن السادس والعشرون من مارس عام 2015 مجرد بداية لحرب شاملة، بل كان لحظة فاصلة، عرّت الكثير من الزيف، وكشفت جوهر المعركة التي لم تكن مجرد صراع داخلي أو خلاف سياسي، بل مشروع استعماري جديد بأدوات محلية وإقليمية ودولية.
ما قبل العاصفة
قبل اندلاع العدوان، كانت اليمن قد دخلت مرحلة تحولات سياسية عميقة عقب ثورة 2011، التي أطاحت بنظام علي عبد الله صالح، وفتحت الباب أمام إعادة تشكيل النظام السياسي وفق أسس جديدة، لكن تلك المرحلة لم تَسلم من التدخلات الخارجية، التي رأت في يقظة الشعب اليمني خطرًا على خارطة النفوذ الإقليمي، وخاصة من قبل الدول الخليجية التي لم تحتمل فكرة وجود يمن مستقل القرار، خارج الهيمنة التقليدية.
في هذا السياق، جاء العدوان الذي قادته السعودية بدعم أمريكي مباشر وتواطؤ إقليمي واسع، تحت مبررات "إعادة الشرعية"، لكنه كان في جوهره محاولة لإعادة اليمن إلى بيت الطاعة، ولإجهاض مشروع وطني تحرري بدأ يتشكل بوعي شعبي متقدم.
عقد من الصمود... اليمن يصوغ ملحمته
اليوم، وبعد عشر سنوات من الحرب، يقف اليمن شامخًا رغم الجراح، فقد استطاع هذا البلد الذي أنهكته الحرب، أن يُعيد تعريف معنى السيادة، وأن يقدم نموذجًا نادرًا في المنطقة لمجتمع يُفضّل الكرامة على السلام المزيّف، والحرية على المعونات المشروطة، لقد تحوّل "اليوم الوطني للصمود" إلى عنوان لعزة وطنية، ومناسبة تُجدد فيها النخب السياسية والشعبية عهدها بمواصلة درب المقاومة حتى تحقيق النصر الكامل.
أحزاب اللقاء المشترك، التي تمثل طيفًا واسعًا من القوى الوطنية، عبّرت في بيانها الأخير عن هذا التوجه بوضوح، مؤكدة أن صمود الشعب اليمني كان الركيزة الأساسية في بقاء الدولة، وأن هذا الصمود أسقط رهانات العدوان في تمزيق الجبهة الداخلية وفرض الوصاية.
العدوان المركّب... أدوات عسكرية، وحرب إعلامية، وتجويع ممنهج
لم تكن الحرب على اليمن حربًا تقليدية، بل اتخذت شكلًا مركبًا، شملت القصف الجوي العنيف الذي دمّر البنية التحتية والمنشآت الحيوية، والحصار الاقتصادي الذي استهدف لقمة العيش وقطاع الصحة والوقود، وكذلك حربًا نفسية وإعلامية شرسة، حاولت وصم المقاومة بالإرهاب والانقلاب.
لكن رغم ذلك، لم تنكسر إرادة اليمنيين. بل على العكس، تطور الوعي السياسي والمجتمعي، وتوسعت القاعدة الشعبية للثورة، وبرزت قيادات وطنية جديدة، واستطاعت القوى الوطنية أن تطور من أدوات المواجهة، عسكريًا وسياسيًا وإعلاميًا، حتى باتت المبادرة اليوم في كثير من الجبهات بيد صنعاء، لا بيد المعتدين.
من الدفاع إلى المبادرة... اليمن في قلب الصراع الإقليمي
التحول اللافت في السنوات الأخيرة، هو انتقال اليمن من موقع الدفاع إلى الفعل والمبادرة، ليس فقط على مستوى المعارك العسكرية التي امتدت إلى عمق أراضي التحالف، بل أيضًا على مستوى الموقف الإقليمي، حيث بات اليمن لاعبًا سياسيًا لا يمكن تجاهله في قضايا الأمة الكبرى، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
وقد تجلى هذا التحول بوضوح في المواقف الأخيرة التي اتخذها اليمن دعمًا لغزة، وتحديه المباشر للولايات المتحدة و"إسرائيل"، وهو ما جعل كثيرًا من المراقبين يصنفون اليمن اليوم ضمن محور المقاومة الإقليمي.
وحدة الصف... بوابة النصر الشامل
في هذا السياق، فإن دعوة أحزاب اللقاء المشترك إلى وحدة الصف الوطني لم تعد مجرد شعار سياسي، بل هي شرط وجودي للانتصار الكامل، فمعركة التحرر الوطني لم تنتهِ بعد، وما زالت أجزاء من اليمن تحت الاحتلال الأجنبي المباشر أو بالوكالة، وما زال الحصار الاقتصادي يخنق حياة ملايين اليمنيين، ولذلك، فإن المرحلة القادمة تتطلب تجاوز الخلافات الثانوية، وتعزيز الجبهة الداخلية، والانفتاح على كل المبادرات التي تخدم مشروع السيادة والاستقلال، مع الحفاظ على الثوابت الوطنية التي لا يمكن التفريط بها، وفي مقدمتها القرار الوطني الحر، والرفض الكامل لأي شكل من أشكال الوصاية.
في الختام، عشر سنوات من الصمود ليست زمنًا يُحتفى به فقط، بل تجربة تُستلهم منها الدروس، وتُبنى عليها الاستراتيجيات، لقد فشلت كل محاولات كسر اليمن، لكنه أيضًا دفع أثمانًا باهظة، ولا يزال أمامه تحديات جسيمة في مسارات إعادة الإعمار، وتحقيق العدالة الانتقالية، وبناء دولة حديثة تستوعب تطلعات كل مكوناته، ومع ذلك، فإن الأمل اليوم أكبر من أي وقت مضى، فشعب استطاع أن يصمد كل هذه السنوات، ويعيد ترتيب أوراقه، ويتحدى قوى الهيمنة، هو شعب قادر على بناء غده، وصياغة مستقبله بيديه، في ذكرى يوم الصمود الوطني، لا نكتب فقط عن تاريخ مضى، بل نُسجل شهادة حيّة على أن الإرادة الحرة لا تُقهر، وأن من أراد الحياة بكرامة، فإن طريقها لا يمر إلا عبر التضحية، والتلاحم، والصبر الطويل.
