الوقت- اعتمدت عناصر تنظيم "تحرير الشام"، التي دفعت سوريا نحو حالة من عدم الاستقرار المتجدد من خلال عمليات القتل واسعة النطاق للأقليات الدينية في الأسابيع الأخيرة، سياسة التوتر مع بعض الجيران على الساحة الخارجية. وفي أحدث التطورات، بدأت يوم الأحد (16 مارس/آذار) جولة جديدة من الصراع بين هيئة تحرير الشام والعشائر اللبنانية. اندلعت هذه الاشتباكات إثر محاولة أربعة عناصر من هيئة تحرير الشام دخول الأراضي اللبنانية في منطقة القصر. وفي مواجهة مع أبناء العشائر المحلية، قُتل ثلاثة منهم وجُرح آخرون نُقلوا إلى مستشفى في المنطقة.
وبعد هذه الحادثة، تحركت قوات تحرير الشام من ريفي حمص ودمشق إلى الحدود اللبنانية، وبدأت بإطلاق الصواريخ على مناطق حدودية مع الهرمل في لبنان، بما في ذلك قرية القصر. ونشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو من المنطقة تظهر قصف قوات الجيش السوري لمناطق داخل الأراضي اللبنانية، وسط نزوح مماثل على الجانب اللبناني. كما أفاد موقع النشرة أن طفلاً استشهد نتيجة قصف المجموعات المسلحة السورية على منطقتي القصر وحوش السيد علي.
كن مستعدًا على جانبي الحدود
في حين أصدر حزب الله بياناً ينفي فيه أي علاقة له بالأحداث في سوريا، زعمت عناصر من هيئة تحرير الشام في بيان أن مجموعة من عناصر حزب الله خطفت ثلاثة عناصر من الجيش السوري عبر كمين على الحدود بين البلدين قرب سد زيتا غرب حمص، ثم اقتادتهم إلى الأراضي اللبنانية وقتلتهم. وبعد إطلاق هذه المزاعم، زعم المسلحون أنهم سيتخذون كافة الإجراءات اللازمة. وفي هذا الصدد، قالت مصادر لـ"العربية" إن المسلحين يستعدون لحشد قواتهم على الحدود مع لبنان.
وفي أعقاب هذا التحرك، أكد الجيش اللبناني أن الاتصالات بين قيادة الجيش والسلطات السورية مستمرة لضبط الأمن والحفاظ على الاستقرار في منطقة الحدود. وأكد الجيش اللبناني: "عززنا قواتنا على الحدود السورية لضبط الوضع الأمني". ردت وحداتنا العسكرية على مصدر إطلاق النار على الأراضي السورية بالأسلحة المناسبة. "سلمنا جثث ثلاثة سوريين إلى سلطات هذا البلد".
وتشهد المناطق الحدودية بين لبنان وسوريا اشتباكات متقطعة، غالبا ما تكون ناجمة عن أنشطة التهريب أو التوترات الأمنية بين المجموعات المسلحة، في ظل الوضع الأمني المعقد في المنطقة. وفي أواخر الشهر الماضي، وفي ظل تصاعد التوترات الأمنية في المنطقة، اندلعت اشتباكات بين عناصر من هيئة تحرير الشام وعشائر لبنانية، ما أدى إلى مقتل وإصابة عدد من الأشخاص. وتسعى هيئة تحرير الشام من خلال هجماتها إلى خلق حالة من التوتر وعدم الاستقرار في لبنان لتحقيق أهدافها السياسية.
محاولات جر حزب الله إلى الصراع
ونظراً لتاريخ حزب الله في دعم حكومة بشار الأسد في الحرب ضد الجماعات الإرهابية، فإن هيئة تحرير الشام، التي لا تزال ترى أن وضعها داخل سوريا متزعزع وغير مستقر، لديها الدوافع التاريخية والسياسية والعسكرية اللازمة لإضعاف مواقف حزب الله وتقليص نفوذه في المنطقة. ولذلك، تحاول هيئة تحرير الشام، من خلال خلق التوتر في المناطق الحدودية، جر حزب الله إلى صراعات جديدة وبالتالي تقليص نفوذه الإقليمي. وبما أن الجماعات السورية عانت من ضربات قوية على يد قوات حزب الله في الحرب الأهلية السورية، والآن بعد أن وصلت إلى السلطة، فإنها تحاول جر حزب الله إلى صراع جديد، ربما للانتقام لبعض قتلاها.
وتأتي التوترات الأخيرة بعد أسبوع من اشتباكات بين مجموعات المقاومة في محافظتي اللاذقية وطرطوس وعناصر من هيئة تحرير الشام، التي اتهمتها الحكومة المؤقتة بالتورط في العمل المسلح لحزب الله وبعض الجهات الإقليمية. تأتي ذرائع الجماعات المتمردة على الحدود اللبنانية في وقتٍ دأب فيه أبو محمد الجولاني على ادعاء أن الجماعات التي يقودها لا تُشكل أي تهديد للدول المجاورة. إلا أن تجربة الأشهر الثلاثة الماضية أظهرت أن هذه الجماعات لا تسعى فقط إلى إرساء الأمن والاستقرار في سوريا وتوفير الأمن على الحدود المشتركة مع العراق ولبنان، بل تسعى أيضًا إلى زعزعة الأمن في جيرانها.
لعبة اللغز الصهيوني
ولا شك أن أي صراع في الدول الإسلامية، وخاصة تلك التي لها حدود مشتركة مع الأراضي المحتلة، سيكون في صالح الكيان الصهيوني. ولذلك، يرى بعض الخبراء أنه في التوترات الأخيرة بين "تحرير الشام" ولبنان، يمكن رؤية بصمات الولايات المتحدة والكيان الصهيوني أيضاً، حيث يحاولان تحويل انتباه حزب الله عن شمال الأراضي المحتلة نحو منطقة التوتر في سوريا، من أجل مواصلة السيطرة على المناطق المحتلة في الحرب الأخيرة.
ومن خلال تأجيج الصراع، يريد الصهاينة أيضاً صرف انتباه الحكومة السورية المؤقتة عن الاهتمام بالاحتلال العسكري الإسرائيلي لجنوب سوريا. لأن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية تقدر أن حكومة الجولاني تستعد على الأرجح للتحرك ضد هذا الكيان من أجل الهروب من الانتقادات الداخلية، ولهذا السبب هدد وزير الحرب الصهيوني مؤخراً في تصريحاته بأن تل أبيب تراقب تحركات الجولاني من مسافة 40 كيلومتراً من دمشق. وتهدف حرب المجموعات المسلحة السورية إلى زعزعة استقرار الحدود اللبنانية، في حين لم تظهر هيئة تحرير الشام أي رد عسكري خلال الشهرين الماضيين، في حين حوّل الجيش الصهيوني جنوب سوريا إلى ساحة غزو له.
منذ سيطرته على دمشق، حاول الجولاني وقادة آخرون في هيئة تحرير الشام تهدئة المخاوف الإقليمية والدولية بشأن الخلفية الإرهابية والتوجهات التكفيرية لقادة الجماعة، من خلال تغيير مظهرهم وترديد شعارات الديمقراطية ودعم حقوق الإنسان. لقد تعرّضت مصداقية هذه القضية لشكوكٍ حادة منذ الأيام الأولى، مع بدء عمليات الاغتيال العشوائية والانتقام من قِبل عناصر مسلحة ضد الأقليات ومسؤولي الأمن التابعين للنظام السابق. والآن، سيُفاقم الهجوم على الأراضي اللبنانية الشكوك حول تحوّل نهج الجماعات المسلحة وأتباع الكيان الجديد في الحفاظ على استقرار وأمن الدول المجاورة.
تحدي خطير للمنطقة
وبما أن منطقة غرب آسيا تشهد موجات من الأزمات منذ العامين الماضيين، فإن الاشتباكات الأخيرة بين الجماعات المسلحة السورية والقوات اللبنانية لها عواقب أمنية وسياسية عديدة. ومن الناحية الأمنية، قد تؤدي هذه التوترات إلى عدم الاستقرار في المناطق الحدودية وزيادة خطر تسلل الجماعات الإرهابية إلى لبنان. وقد تؤدي الاشتباكات الحدودية إلى تصعيد التوترات العسكرية بين لبنان وسوريا، مما يهدد الاستقرار الإقليمي. ويمكن أن يؤدي استمرار الصراعات إلى نزوح سكان المناطق الحدودية وخلق أزمة إنسانية، مما يضع عبئا ثقيلا على كاهل البلدين اللذين يعانيان من أسوأ الظروف الاقتصادية.
وعلاوة على ذلك، ومع تصاعد التوترات، هناك احتمال لتدخل قوى إقليمية وخارجية في هذه الصراعات، وهو ما قد يؤدي إلى تعقيد الوضع أكثر. ولذلك فإن التحركات الأخيرة لهيئة تحرير الشام على الحدود اللبنانية السورية قد تكون لها عواقب وخيمة على أمن واستقرار المنطقة. ومن الضروري أن يتخذ المجتمع الدولي والدول الإقليمية التدابير المناسبة لمنع تصعيد التوترات والمساهمة في حل النزاعات سلميا. وبشكل عام فإن غزو هيئة تحرير الشام للحدود اللبنانية هو جزء من المخطط العبري الغربي الشرير لقطع الطريق بين دمشق وبيروت، وهو إشارة مناسبة للكيان الصهيوني لترسيخ احتلاله في جنوب لبنان وسوريا بحجة انعدام الأمن حول الأراضي المحتلة.