الوقت - جاءت التصريحات التي أطلقها رئيس وزراء الكيان الصهيوني، بنيامين نتنياهو، من تل أبيب عقب لقائه وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، لتميط اللثام عن مخطط خارجي محكم يرمي إلى تحويل الدولة اللبنانية إلى مجرد خيط في نسيج المؤامرة الأمريكية-الصهيونية.
شدَّد نتنياهو في لقائه مع وزير الخارجية الأمريكي على ضرورة توحيد الجهود الأمريكية-الصهيونية في مواجهة ما أسماها "الدولة اللبنانية القوية" - في إشارة ضمنية تنمُّ عن نوايا حثيثة لتجريد لبنان من أي موقع مستقل أو مقاوم في المشهد الإقليمي، وحصر دور جيشه النظامي في مهام الحرس الداخلي، مع سلب حقه المشروع في الذود عن حدوده.
وليس من المستغرب أن تخلو رسائل الدعم المتوالية من العواصم الغربية والعربية - والتي أشادت بنهج القبضة الحديدية للحكومة - من أي إشارة إلى حق الدولة في صون سيادتها الإقليمية، فقد اقتصرت تلك الرسائل على قضية المطار وحدها، في حين يتعرض كامل التراب اللبناني من أقصاه إلى أدناه لانتهاكات سافرة لا تنقطع.
وفي خضم هذه الأحداث، يبدو أن الحكومة اللبنانية حديثة التشكيل قد نحَّت جانباً أولوياتها الداخلية الملحة - وعلى رأسها مجابهة الاحتلال الإسرائيلي والأزمة الاقتصادية الخانقة - لتنساق وراء الأجندات الخارجية.
يئنّ لبنان تحت نير أزمة اقتصادية طاحنة وأطلال حروب خلت، ما يستوجب على دفة الحكم أن تجعل من إعادة إعمار البلاد وتضميد جراحها الاقتصادية، غايةً قصوى وهدفاً أسمى، غير أن واقع الحال يكشف عن انصراف أرباب السلطة إلى الشؤون الخارجية والضغوط الدولية، منشغلين عن الهموم المحلية التي تنوء بها كواهل المواطنين، وما مساعيهم لاستجداء المعونات المالية من الدول الغربية والعربية، إلا رهينة للسياسات الأمريكية والإسرائيلية.
وفي هذا المضمار، قالت صحيفة "الأخبار" اللبنانية: "إن حظر هبوط طائرة ماهان الإيرانية في مطار بيروت، وإن تستروا خلف ذرائع أمنية، ما هو في حقيقة الأمر إلا تنفيذ صاغر لإملاءات تل أبيب وواشنطن، فقد انساق المسؤولون اللبنانيون في ركاب التبعية، كمن لا حول له ولا طول، متنازلين عن شرف السيادة الوطنية وكرامتها".
وتستطرد الصحيفة مبينة أن صناع القرار في لبنان، وهم على دراية تامة بسخط الرأي العام من انصياعهم الأعمى للأوامر الأمريكية، يتذرعون في تعليق الرحلات الإيرانية إلى بيروت، بمزاعم نقل الأموال والعتاد إلى حزب الله، متشبّثين بحجة خضوع الطائرات الإيرانية للعقوبات الأوروبية.
ضبط النفس لدى حزب الله انطلاقاً من المصلحة الوطنية
انبرى حزب الله اللبناني، وهو الطود الشامخ في مواجهة الغطرسة الصهيونية، مستنكراً قرارات السلطة الحاكمة، وقد أعلن الشيخ نعيم قاسم، الأمين العام للمقاومة الإسلامية في لبنان، أن حظر تحليق الطائرات الإيرانية في سماء بيروت لا يقتصر وباله على المصالح اللبنانية وحسب، بل يصبّ في خدمة مآرب الكيان الصهيوني.
وكشف الأمين العام لحزب لله النقاب عن أن تمام سلام، رئيس الوزراء اللبناني، قد تذرع بستار "سلامة الطيران المدني" لاتخاذ هذا القرار المشؤوم، بيد أن الشيخ نعيم قاسم يجزم بأن "جوهر القضية ليس أمن الطيران المدني، وإنما هو انصياع أعمى لإملاءات تل أبيب، وها نحن نمضي في تنفيذ مآرب المحتل".
يستشعر حزب الله خطورةً بالغةً من أن تفضي هذه السياسات المتخاذلة إلى تصدع في اللحمة الوطنية، وتقويض أركان الجبهة الداخلية في مواجهة صلف المحتل الصهيوني وعدوانه.
وأكد الشيخ نعيم قاسم في خطابه أن على الكيان الصهيوني أن ينسحب من كل شبر من أرض لبنان في الثامن عشر من فبراير "دونما تعلل أو مماطلة"، وإلا فهو محتل غاصب، وللمقاومة في التعامل مع المحتلين باع طويل وتاريخ مشهود.
واسترسل مستذكراً الواجبات الجسام المنوطة بالحكومة اللبنانية في هذا المقام، قائلاً: "يتحتم على الحكومة اللبنانية في هذه المرحلة المفصلية، أن تستنفر كل طاقاتها وتسخر جميع أدواتها السياسية وعلاقاتها الدولية لضمان اندحار العدو في الموعد المحدد، ولا تدع له موطئ قدم على أرض لبنان، وعليها أن تتخذ في هذا الشأن موقفاً صارماً لا يقبل المساومة".
وختم الأمين العام لحزب الله كلمته داعياً الحكومة إلى تكريس جهودها لإعادة إعمار ما خربته الحرب وتحقيق الرخاء لأبناء الوطن، واستثمار علاقاتها مع الدول الأجنبية بما يخدم المصالح العليا للبلاد.
المفاوضات العقيمة للحكومة
لکن المشهد السياسي المأزوم - وإن ناشد حزب الله الحكومة أن تستعصم من الانصياع للضغوط، وتعالت صيحات الجماهير الغاضبة مستنكرةً مواقف السلطة - قد أفضى إلى إخفاق المباحثات التي دارت رحاها بين رئيس الجمهورية جوزيف عون ورئيس المجلس النيابي نبيه بري، في سعيهما لاستجلاء سبيل للخروج من هذه الأزمة، وقد بات جلياً في نهاية المطاف افتقار المسؤولين الحكوميين إلى العزيمة الصادقة، في مجابهة ما تمليه واشنطن وتل أبيب من إرادات وأهواء.
وفي هذا المضمار، أفصحت مصادر وثيقة الصلة لصحيفة "الأخبار"، أن الأيام الثلاثة المنصرمة قد شهدت انكباب الرؤساء الثلاثة - رئيس الجمهورية جوزيف عون، ورئيس الوزراء تمام سلام، ووزيري المنافع العامة فايز رسامني والشؤون الخارجية يوسف رجي - على تدارس هذا الملف الشائك، وتمحيص الخيارات المحتملة.
وأفادت هذه المصادر بأن من بين الحلول المطروحة على بساط البحث والتمحيص في هذه المباحثات، التوجه نحو خيار هبوط الطائرات الإيرانية في مطار بغداد وإخضاعها للتفتيش قبيل إقلاعها صوب لبنان، على أن تضطلع شركة أمنية أمريكية بمهام التفتيش وإجراءاته.
وفي السياق ذاته، تؤكد الأوساط الإعلامية اللبنانية أن "رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء لا يضمران أدنى نية لمجابهة الإملاءات الأمريكية والإسرائيلية، حتى وإن تضمنت اقتراحاً بالتعهد بإجراء تفتيش شامل داخل مطار بيروت"، وأن مسار الأحداث يتجه نحو "إعلان حظر الرحلات المباشرة بين طهران وبيروت".
وما هذا الاقتراح إلا انتهاك صارخ للسيادة الوطنية لكلا البلدين، لبنان وإيران، فضلاً عن كونه يتناقض تناقضاً جلياً مع مطالب المحتجين اللبنانيين، وتصريحات الأمين العام لحزب الله.
الحاجة الملحة لتغيير نهج الحكومة في سياساتها الداخلية والخارجية
يرزح لبنان، في خاتمة المطاف، تحت وطأة تحديات جسام، تستنهض همة حكومته لاتخاذ قرار مصيري لا يقبل الإبطاء: إما المضي في غي الانصياع والخنوع للإملاءات الخارجية، وإما النهوض لتلبية نداء الوطن وأولوياته الملحة.
إن الدولة اللبنانية في أشدّ الحاجة إلى انتهاج سبيل الاستقلال ووقفة شامخة صلبة، تتبوأ فيها المصالح الوطنية ذروة الأولويات، وتنأى بنفسها عن إملاءات الأجانب ودسائسهم، فبهذا النهج وحده يستطيع لبنان أن يشقّ طريقه نحو إعادة البناء وصون سيادته، ويتصدى بعزم وحزم لاستمرار الغطرسة الصهيونية وطغيانها، أما إذا حاد عن هذا السبيل القويم، فسوف يغدو مجرد أداة طيعة في أيدي القوى الخارجية، ويُحرم من تحقيق تطلعاته وأهدافه المنشودة.
